الكاتب: محمود بن جمعة الرحبي
وبالتزامن مع إصلاح لوثر بدأت الثورة العلمية بالظهور على يد الرياضياتي والراهب البولندي نيقولا كوبرنيكوس[1543-1473] بعد أن نشر كتابه الشهير قبل أيام من وفاته (دورات الأجرام السماوية)، الذي بين فيه نظريته حول مركزية الشمس ودوران الأرض حول محورها، فكانت نظريته لها الفضل في نهضة أوروبا العلمية، وأنتجت علماء كانت لهم بصمة حقيقية في العلم الحديث، منهم: كيبلر، وجاليليو، ونيوتن، وديكارت.
لم تعترض الكنيسة على نظرية كوبرنيكوس، التي تعارض ما نظره بطليموس حول مركزية الأرض لانشغالها بمباحث لاهوتية وإنسانية وعدم اكتراثها لميدان الفلك لطغيان الإصلاح الديني الأحداث آنذاك، فاستقبلت آراءه بالشك والحذر، وأكمل يوهانس كيبلر[1630-1571] مسيرة سلفه فوضع قوانين حركة الكواكب، بناءً على مركزية الشمس، في خضم الصراع الطائفي الحاصل في ذلك الوقت. تبنى المفكر الإيطالي جيورنادو برونو[1600-1548] النظام الكوبرنيكي، كما اعتقد بلانهائية العالم وتعدد العوالم فاتهم بالهرطقة بعد قضائه في السجن ثماني سنوات، واتهم ببدعة القول: بأن المسيح مجرد مخلوق كما يعتقد الآريوسيون، واتهم بتعاطي السحر فلقي حتفه حرقا بالنار. كذلك تبنى الفلكي الإيطالي الشهير مؤسس العلم الحديث غاليليو غاليليه [1642-1564] نظام مركزية الشمس بدل مركزية الأرض التي يقرره الكتاب المقدس؛ فكان عام 1633 محاكمة غاليليو، الذي قضت عليه الكنيسة بالإقامة الجبرية حتى وفاته، وبعد ثلاثة قرون من محاكمة غاليليو، تحديدا عام 1982 أقرت الكنيسة بخطئها، وأبدت اعتذارها ورفعت تهمة الزندقة عنه بعد صراع طويل انتهى بانتصار الحقيقة.
إن محنة غاليليو غدت رمزا للصراع بين العلم والدين أو بين العقل والإيمان، ولعل تُهم غاليليو تعود لتبنيه دعوة تفسير الكتاب المقدس تفسيرا مجازيا وليس حرفيا، ويقتصر دوره في إرشاد الناس لطريق الهداية فهو ليس كتاب ذو تركيبة فلكية(1). ومن المعروف أن إيطاليا تتبع الكنيسة الكاثوليكية، فكانت تمنع نشر كوبرنيكوس وغاليليو وديكارت على عكس ما حصل للمملكة المتحدة بعد أن تجاوزت الحرب الأهلية؛ لأن الحكم هناك بروتستانتي، فكانت متنفسا للأحرار واستقبلت الكتب الممنوعة بقراءتها والاستفادة منها، فصاغ نيوتن قوانينه في كتابه الشهير (المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية)، وصاغ بيكون منهجه العلمي التجريبي، وكتب لوك رسالته في التسامح الديني وأطروحاته في نظرية المعرفة، ولذلك معظم رواد التنوير كفولتير يعتمدون على كتابات بيكون ونيوتن كمرجع أساس لفلسفتهم.
شكّلت الثورة العلمية والإصلاح الديني والانفتاح على آراء العلماء والفلاسفة: كأرسطو، وأفلاطون، وابن رشد، بالإضافة إلى النزعة الإنسانية-التي ظهرت في إيطاليا وجعلت الإنسان محور الوجود- رؤية جديدة للعالم واتساعا لأفق التفكير لمن أتى بعد غاليلو، فطرحت مسائل الطبيعة والوجود، وهيأت هذه الأحداث بزوغ ثورة فلسفية حديثة على يد رينيه ديكارت ]1596-1650[، فأحدثت آراءه زلزالا فكريا أثرت في من بعده فمنهجية ديكارت الكوجيتو أو الشك للوصول إلى اليقين (الشك الديكارتي) استخدمها سبينوزا والديكارتيين لاحقا في نقد النصوص الدينية، فعوّل ديكارت على العقل في التوصل للحقائق ولغرض البحث عن الحقيقة ولا يستبعد أنه اطلع على مؤلفات أبي حامد الغزالي كما قال باحث تونسي بعد أن وجدت كتب أبي حامد في منزل ديكارت فأخذ أفكاره من كتاب المنقذ من الضلال وغيرها من كتب أبي حامد ودعمها لبناء فلسفته الحديثة. أنتجت الفلسفة الحديثة تيارين فلسفيين، أحدهما عقلي، والذي انتهجه سبينوزا ولابتنز، والآخر تجريبي، كما ظهر عند بيكون وديفيد هيوم.
ونرى أن التنوير لم يأت فجأة في أوروبا عامة وفرنسا خاصة، بل كانت هناك أحداث مهّدت بزوغ عصر العقل الذي قام إثر الانغلاق والتزمت الذي فرضته الكنيسة على الأوروبيين، وهذا التمهيد المقتضب الذي قدمته عن ما قبل عصر الأنوار يعطي فكرة مجملة أن ما عانته أوروبا من حروب طاحنة بين الطوائف وحرق الكتب التي تخالف الكتاب المقدس، ومحاكم التفتيش التي تقتل كل مبتدع عن الكنيسة، كل هذه الأحداث أدت إلى ظهور التنوير – ومما لا شك فيه- أن ما حصل في أوروبا في تلك الحقبة يتكرر بطريقة أو بأخرى في عالمنا العربي، فالحروب بين الشيعة والسنة ما زالت رحاها تطحن الشعوب وما تزال طائفة من العلماء تبرر الاستبداد والاستعباد، وتدعو للجهاد ضد الفئة المخالفة، استنادا على نصوص دينية. من جهة أخرى يرفض العلماء -التقليديين– كل من يجتهد خارج فهمهم أو خارج الطريقة التي اعتادوا عليها، ويهوّلون من كلمة “عقلاني” كما فعل قساوسة النصارى من قبلهم، على الرغم أن العقلانية التي قام بها الغرب لم تبتدع من عند أنفسهم، بل أخذوها من فلاسفة المسلمين وتجاوزوها، أما نحن فقد وقفنا عند أبي حامد الغزالي، وقلنا: أنه قضى على الفلسفة، مع أن ديكارت نفسه أخذ من فلسفته.
إن دراسة تجاوز أوروبا لمحنتهم الفكرية وتخطيهم عقبات الحروب الطائفية أمر مهم لإعادة النظر في الأزمة الفكرية والأخلاقية التي نعاني منها طوال هذه العقود، ولن تُحلُّ هذه الأزمة ما دامت إمكانية العقل في نقد التراث معطلة.
المصادر:
1- مدخل إلى التنوير الأوروبي,هاشم صالح