الكاتب: مرتضى بن حسن بن علي
الكراهية في الخطاب العربي خطاب متجذر ويظهر بشكل سافر اثناء الأزمات كاشفا عن عمق الأزمة الثقافية وأزمة العقل العربي التي نعانيها حيث ان قيم التسامح التي ندعي بها لا تتجاوز طرف اللسان. وتلعب بعض فئات “السياسيين” و” المثقفين” و”رجال الدين” دورا مميزا عن طريق استعمال وسائل الاعلام والاتصال الجماعية المختلفة وبعض المساجد التي أصبحت متهمة من الكثيرين بلعب دور تحريضي بشكل لافت وضاغط، وأدى هذا الدور الى ظهور اِسْتِقْطابَات سياسية وطائفية ومذهبية وقبلية قاتلة داخل المجتمعات ومزقت أنسجتها الاجتماعية يصعب معالجتها بسهولة. ولقد شهدت مرحلة الخمسينات والستينات والسبعينات وما تلتها وما زالت ذلك الخطاب عند حدوث أية خلافات سياسية بين دولتين أو زعيمين، ورأينا ذلك من خلال فصول المواجهات اللفظية الساخنة في الاجتماعات والندوات والحوارات العربية وما رافقتها من المواقف المنفلتة الغاضبة.
ورغم أننا من أكثر شعوب العالم استعمالا للأمثلة المختلفة مدعومة بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تدعو الى الحكمة والاتزان مثل:” وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ “، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا “، و”التسامح زينة الفضائل”، و” أعقل الناس أعذرهم للناس “، و”لأن أندم على العفو خير من أن أندم على العقوبة”، و” الخلاف لا يفسد للود قضية”، وغيرها وغيرها. ولكن في الواقع ربما لا نتحمّل اي رأي مختلف ونفسد كل القضايا بالصراع والتجني واستعمال كافة الأسلحة الدنيئة بما فيها فتاوي التكفير والتحريض على القتل وسفك الدماء حيث يتحول الحوار الى حوار بالمدفعية والطائرات والقنابل والاحزمة الناسفة والصواريخ وكافة الأسلحة القاتلة.
واقعيا أصبح من شبه المستحيل أن نتقبل حلولا توافقية من أجل وحدة الوطن أو الاحتفاظ بحبل الود مع الآخرين. وعندما نتصالح لا نذهب الى أصول المشاكل التي فجرت الصراع أو تشخيصها وإيجاد الحلول لها؛ بل نحاول اتباع بعضا من العادات التي عفى عليها الزمن مثل اتباع سياسات ” حب الخشوم” و”تبويس اللحى” وترديد عبارات مثل ” عفى الله عما سلف ” التي ربما كانت ناجحة سابقا في المجتمعات البدوية لحل مشاكل قبلية او أسرية او في معالجة قضايا الزواج والطلاق، غير أنها لا تصلح في عالمنا المُعقّد المُركّب المعاصر. كل ذلك يدل على عمق أزمتنا الثقافية وكم هي غير منجزة وأننا نعيش الماضي بأفكارنا وتقاليدنا وأعرافنا وعقولنا ونعيش الحاضر بأجسادنا.
والمسألة ليست هينة . ففكرنا السياسي التاريخي هو من أفقر الجوانب في تراثنا الفكري. كما ان النظم والمؤسسات السياسية في تاريخينا العربي تجعل من غير المبالغة القول ان هذا التاريخ مصاب بفقر دم سياسي. وهذا ما جعل حاضرنا يحمل معه أعراض داء “الأنيميا” السياسية مؤديا الى ” الشيزوفرينيا ” السياسية. اي الانفصام بين الخطاب السياسي وبين السلوك السياسي. أما أن لنا ان نضع هذه ” الشيزوفرينيا” تحت المجهر المختبري وفِي قاعات البحث للفحص والتحليل بدلا من تركها في الساحات العامة تعبث بكل ما تبنيه او تحاوله؟؟
لقد سيّسنا كل شيء في حياتنا. سيّسنا الدين والمذاهب والثقافة والتعليم والاقتصاد والفكر ومعظم الأشياء الاخرى. أصبح كل شيء مسيّساً إلا السياسة. السياسة من حيث كونها أصول وأداء وكائن طبيعي معترف به، إضافة الى كونها علم وفن ادارة الموارد المختلفة للمجتمعات، السياسية والاقتصادية والعلمية والتراثية والجغرافية والتاريخية والإنسانية، وبما يحقق لهذه المجتمعات صحتها ورفاهيتها داخل أوطانها وحماية أمنها ومصالحها وسلامتها خارج حدودها.
السياسة الطبيعية لم تجد قنواتها المشروعة في مجتمعاتنا منذ قرون عديدة، فتحولت إحتقانا في شرايينه نحو مجالات اخرى وعبّرت عن نفسها بالأسقاط والتعويض. وهذا ما يُفّسر الكثير من الخلافات المذهبية والفقهية والقبلية في الماضي والحاضر والصراعات الدموية التي أنتجتها وما زالت تعيد إنتاجها.
كان خطاب الكراهية واضحا اثناء الحرب العراقية-الإيرانية واثناء ازمة احتلال الكويت والحرب التي تلتها وبعد ذلك اثناء الحصار المُدمّر على العراق وما أعقبه من غزو مكشوف أدى الى تمزيق النسيج الاجتماعي في العراق.
وبعد أحداث ” الربيع العربي” ولا سيما بعد أحداث سوريا وتاليا اليمن تحوّل الخطاب الى ظاهرة اجتماعية، ثقافية، سياسية معقدة ومركبة، ولقد شهدت المجتمعات العربية نمو هذه الظاهرة وبأشكال صادمة بالتزامن مع التحولات السياسية العربية الراهنة مستثمره الانتشار الواسع لوسائل الإعلام الحديث والتواصل الاجتماعي ومتأثرةً بالأزمات الاقتصادية وحالة الجهل والمواريث التاريخية وانسداد آفاق المستقبل. الأمر الذي خلق حالات متعددة من الاِسْتِقْطابَات الحادة. وفِي أثناء الخلافات يصل خطاب الكراهية الى مستويات خطرة من مستويات التعصب والكراهية والتحريض.
وبعد الأزمة القطرية تعقدت الأزمة أكثر في الخليج وأظهرت بدورها عن الانكشاف الخليجي نفسه لنفس الظاهرة وما مدى هشاشة العلاقات البينية بين أعضائه بعد ان مُورست الكراهية في داخل دول مجلس دول التعاون.
لقد كشفت شبكات التواصل الاجتماعي حجم الانكشاف الاجتماعي والثقافي إلى جانب الانكشاف السياسي الذي زاد من تعقيد ظاهرة خطاب الكراهية، وكشف عن جوانب متعددة لهذا الخطاب منها إعادة إنتاج الهويات الضيقة والمرجعيات الأولية بعد ان كنّا نردد ليل نهار ولعقود عن “المصير الواحد ” و”الهدف الواحد” و”الأمن الواحد” و”خليجنا واحد”.
لقد كشفت أفعال الناشطين على شبكات الإعلام الاجتماعي والإعلاميين والصحافيين المحترفين وبعض رجال الدين وكذلك “المثقفين العرب والخليجيين” الذين ساهموا بدورهم لترويج خطاب الكراهية، عن مدى تنائينا عن كل الشعارات التي نرفعها. لقد تنامت بسرعة غريبة ظاهرة الكراهية ولا تزال ودخلت في سياق الحملات المنظمة محرضة على الفتن ونشر الكراهية وأخذت خط الشخصنة والتعرض للأعراض والمذاهب وصولا الى شيطنة المجتمعات بكاملها.
ورغم ان خطاب الكراهية في الأعلام العربي ليس بالخطاب الطارئ إلا انه بدأ أكثر وضوحا وضغطا في مرحلة الثورات والاحتجاجات الشعبية والاختلافات السياسية بدأً من الخمسينات ومرورا بكل الأزمات العربية ووصولا الى الأزمة الاخيرة والتي ما زالت مستمرة. لم ينجح الإعلام العربي في امتهان الحياد والموضوعية بل أصبح هو الاخر جزءا من الصراع والتحريض كما أظهرت الأزمة ان كل قيم التسامح التي كانت بعض الفئات المحسوبة على الدين تدعيها، لا وجود لها واقعاً في ثقافتنا الراهنة.
وكخطوة أولى لنزع فتيل الأزمة المتصاعدة علينا البدا بنزع خطاب الكراهية المتصاعد ولو تدريجيا ونعيد الأمور الى نصابها الحقيقي دون تهوين او تعظيم والى اصولها السياسية والى كونها صراع بين المصالح المتناقضة والى ايجاد وسطاء مقبولين ومعقولين وعكس ذلك سوف نسير بخطانا الى خسائر محققة للجميع. ودولة الكويت الشقيقة التي تقوم بجهود مشكورة عليها ان تستمر فيها للخروج من هذا النفق المظلم الذي دخلنا فيه، مدعومة بمخزون عمان الاستراتيجي ودورها المتميز وجهودها الصامتة لحل الأزمات تمهيدا للخروج من هذا المأزق الذي نحن فيه ومساعدة جميع الأطراف للعبور الأمن.