منى بنت سالم المعولية
كنت أعلم جيدا أنه يوليو المجيد، وداومت على انتظار يوم الإجازة في كل عام التي تأتي احتفاءً بهذا اليوم، كنا نردد صغارا “بالدم والروح نفديك يا قابوس” لم أكن أعلم أن تلك العبارات والهتافات الحماسية، سيأتي يوم نهتف ونستجدي كل شعارات العاطفة دون أن يكون لها أي تأثير على الموت؛ ذلك الموت الذي هز أكتافنا وانتزع أرواحنا معه برحيل قائد اعتقدت عقولنا المحبة أنه لن يرحل أبداً، ولا شك أنه الغلو فيمن نعشق ونحب، لقد كنا نرفض فكرة الموت ولم نتصالح معها، هكذا هي طبيعة الإنسان لا يستسلم بسهولة ولا يصدق موت أحبابه، وهذا ما حدث يوم رحيل السلطان الخالد في قلوبنا، لقد أبناه بكل كلمات الرثاء، وودعناه كما لم يودع حبيا حبيبه، ومع ذلك لم يكن رحيله سوى حياة من نوع آخر، حياة شطر الخلود والبقاء ليعيش مؤبدا فينا لا يرحل.
فكيف يرحل من حفر حضوره في كل سهل وجبل وميدان تاريخا لا ينمحي ولا ينطمس، كيف يرحل من نحت الحجر وشق الجبال وعمر السهول وتصالح مع الجغرافيا الصعبة وتجاوز عرقلة التضاريس، وكيف يرحل من انحنت عمان له قاطبة تبارك مسيرة التغيير والإنقاذ وزعزع مواطن الجهل وبدد الظلام وقوض الظلم وبسط يد العدل والعدالة، وشيد صروح العلم والجامعات ومنابر الفكر والمنارات ودور الحداثة وقمم المؤتمرات.
لم تغمض عينه ولم يلتحف الأبدية، فالعظماء لا يموتون؛ إنما ينتقلون من مرحلة إلى أخرى تكون أكثر وجودا ووجدانية في داخل بلورة العين ترتسم عمان، وإذا أسدل الجفن ستائره تجلت فيهما عمان وتبقى قصة الرحيل شائبة ومحل تكذيب وارتياب.
ها هو قابوس عمان خلف سديم الغياب المكلل بالحضور حاضر في كل طريق، ها هو يتكئ على عصاه جلوسا على كرسي يستمع باهتمام إلى أعيان المناطق والشيوخ، ها هو يتحزم بمحزم القافلة وتجهيزات الرحلات يشق ظلام البراري والسيوح يتفقد رعيته والأماكن ويهش الظلام ليتحول إلى قبس ينير العتمة.
ها هو ابن سعيد يتجول متقدما موكبه في سيارته الخضراء وهاهم أبناؤه المواطنون وتلاميذ المدارس والمعلمون يرمون سيارته بورد الجهنمية ويرفعون الهتاف والأعلام.
ها هو السلطان قابوس يلوح بكلتا يديه يحيي شعبه المتهافت عليه من كل حدب وصوب ليراه على أرض الواقع، بعد أن استمتعوا بخطبه عبر أثير الإعلام.
ها هم تلاميذ مدارس مسقط يتمرنون ويتدربون وينهون البروفات الأخيرة لاستعراضهم أمامه بأحلى العروض والفساتين المزخرفة بعلم السلطنة ليحظون بابتسامة رضا تشي بها الملامح الرزينة من والدهم المعظم.
ها هي المحافظات تستعد للرزحة والعازي والتغرود وها هم البحارة يتبارون ليردوا على زجر النهام في عرض البحر، وها هو النوخذة يشرع الأشرعة ويطلق صاريته للرياح مستعرضا أمام حضرة المقام الخالد تاريخ الأجداد.
استيقظنا وأشرقت شمس يوليو المجيد ونحن ندرك جيدا أن قابوس عمان مستيقظ قبلنا وباقٍ معنا ونحن نعلم أنه برغم الموت لن ينام.