الكاتب: بدر بن سالم العبري
استطاع الإمام محمد عبده [ت 1905م] أن يبعث في الأمّة الإصلاح من داخل البيت الإسلاميّ – إن صح التّعبير – مع شيخه جمال الدّين الأفغانيّ [ت 1897م]، وتأثر الإباضيّة في المغرب قبل المشرق بهذه الحركة، للأسباب السّياسية في عمان الّتي جعلت الحركة الإصلاحيّة فيها متأخرة جدا.
ففي ليبيا تأثر بها عمرو النّاميّ [لا يعرف تأريخ وفاته]، والّذي تأثر بجماعة الإخوان [المسلمون] أيضا، وعلي يحي معمر [ت 1980م].
أمّا في القطر المغربيّ فقاد الحركة الشّيخ بيوض إبراهيم بن عمر [ت 1980م]، والصّحفيّ الأديب أبو اليقضان إبراهيم [ت 1973م]، إلا أنّ الشّيخ بيوض في حركته اهتمّ بجانبين: الإصلاح الاجتماعيّ، والتّأسيس العلميّ، حيث أسس معهد الحياة في القرارة بميزاب، لذا ظلّت حركته الإصلاحيّة خالدة حتى اليوم، فقاد المسيرة الإصلاحيّة بعده تلميذه وعونه الفقيه عبد الرّحمن البكريّ [ت 1986م]، ومن ثمّ تلميذهما الشّيخ عدون [ت 2004م]، والشّيخ ناصر المرموريّ [ت 2011م].
والمرحلة الّتي عاشها الشّيخ بيوض في ميزاب لم تكن بالمرحلة المستقرة بسبب الاستعمار الفرنسيّ، وإن كانت الصّحراء الجزائريّة أقلّ تأثرا إلا أنّها كانت ضحيّة الاستعمار أيضا، فضلا عن العزلة الثّقافيّة في هذه المنطقة الّتي تولّد بسببها الجهل وانتشار الخرافة.
وحاول البعض إثارة الفتنة بين الأمازيغ والعرب من جهة، وبين الإباضيّة والمالكيّة من السّنة من جهة ثانية، إلا أنّ المدرسة الإصلاحيّة وغيرهم من مفكري وفقهاء ميزاب وقفوا ضدّ الفرقة والفتنة صفا واحدا، كذلك عرضت فرنسا على الشّيخ بيوض أن تكون الصّحراء الجزائريّة دولة إباضيّة مستقلّة عن الجزائر؛ إلا أنّه رفض، واعتبر الجزائر تربة واحدة لا تتفرق.
وحزّ في نفس الإصلاحيين الإباضيّة في المغرب ما تعيشه عمان من عزلة حضاريّة ومعرفيّة، وفقر معيشيّ وصحيّ، فبعث الشّيخ البكريّ نيابة عن جمعيّة الإصلاح وعلماء ميزاب إلى عمان عقب وفاة محمد بن عبد الله الخليليّ [ت 1373هـ]، ومبايعة غالب [ت 2009م] بعده، وفي الرّسالة ناشدوا أهل عمان بتشييد المدارس والمعاهد والكليّات، وإرسال البعثات، وتعميم الصّناعات، وتأسيس المطابع والشّركات، وإصدار الجرائد والمجلات، وإنشاء المستوصفات والمستشفيات، وتعبيد السّبل والطّرقات، ومدّ السّكك الحديديّة والأسلاك الكهربائيّة، وإنشاء المعامل بأنواعها، واستخراج معادن الأرض ومحاصيلها[2]، وأحزنهم أن يبقى القطر العمانيّ فقيرا وفيه الكنوز الطّبيعيّة[3].
ومن المسائل الّتي طرحت بقوّة في العصر العشرين لما أسلفنا بسبب التّلفاز والفيديو والإذاعة والصّحافة وظهور السّينما وانتشار المسرح الغنائيّ؛ التّساؤل الكثير حول الغناء والمعازف، لهذا وجه سؤال إلى الشّيخ بيوض، وبين نظرته أنّ الأصل في التّغني بالغناء، والتّطريب بألحانه؛ لا دخل له في التّحليل والتّحريم، فأصل الغناء أنّ حلاله حلال، وحرامه حرام، وعليه هو كسائر المسائل تعتريه الأحكام الخمسة، ولا ينتقل إلى الحرمة إلا إذا اقترن بمحرّم، أو أدّى إلى محرّم، أو ضيع واجبا.
وأمّا آلات اللّهو لا تصل إلى حدّ الحرام، بغض النّظر عن نوعها، إذ أقل ما يقال فيها الكراهة الشّديدة، سواء اقترنت مع غناء – أي كلام ملحن – أو انفصلت عنه، إلا إذا استخدمت في حرام، أو قادت إلى محرّم، أو ضيّعت واجبا، فتصبح محرّمة.
ولهذا يتضح من فتوى الشّيخ بيوض أنّ الآلات ليست محرّمة في ذاتها؛ بل لما يقترن بها من علل خارجيّة تغير في ذات حكمها، إلا أنّه يستثني المزمار، ويعتبر ضربه سيئة من السّيئات – أي الصّغائر -، ولا يصل إلى درجة الكبائر، وهو بهذا يقترب من رؤية أبي حامد الغزاليّ [ت 505هـ] وأخيه أبي الفتوح أحمد الغزاليّ [ت 520هـ]، وقد تقدّم الحديث عنهما.
بيد أنّ البكريّ في فتواه كان أكثر صراحة لما سُئِل عن الموسيقى والسّينما والتّلفزيون، فيبين أنّ سماع الموسيقى والتّلفزيون لا بأس بهما عند فريق من العلماء إذا خلا ذلك ممّا يهيّج النّفس، ويبعثها على الرّذيلة، ومن تورع عن ذلك فهو خير له وأسلم.
ورؤية البكريّ قريبة من رؤية شيخه بيوض إلا أنّها باعتبار المدرسة الإباضيّة الّتي تنظر إليه بسلبيّة كما سيأتي في مبحث المدارس الفقهيّة أكثر تقدّما وجرأة على التّصريح.
يتبع الحلقة [الثّانية والعشرون]……
الهامش:
[1] للمزيد ينظر كتاب: بيوض: إبراهيم بن عمر؛ فتاوى الشّيخ بيوض، ط مكتبة أبي الشّعثاء، ولاية السّيب، سلطنة عمان، الطّبعة الثّانية 1411هـ/ 1990م، ص: 712 – 717؛ والبكريّ: عبد الرّحمن بن عمر؛ فتاوى البكريّ، تحقيق داود بن عيسى بورقيبة، ط المطبعة العربيّة، غرداية، الجزائر، الطّبعة الأولى، 1424هـ/ 2003م، ج: 3، ص: 63.
[2] بكلّي: عبد الرّحمن؛ رسائل البكريّ، ط مكتبة البكريّ، غرداية/ الجزائر، ط 1427هـ/ 2007م، ص: 310.
[3] المصدر نفسه، ص: 311.