بدر بن سالم العبري
في صباح يوم السّبت في الرّابع والعشرين من أغسطس كان الأصل زيارة المعبد البهائيّ (مشرق الأذكار) في ويلمت في شيكاغو، إلا أنني اعتذرت لثلاثة أسباب: الأول: لأنّ تعب السّفر لا زال باقيا، خاصّة كان اليوم الأول من المؤتمر مزدحما بالأعمال كما رأينا، والثّاني: لكوني زرت المعبد مرتين سابقا وكتبت عنه، والأصل أزوره للدّعاء ولكن لم يتسع الوقت، والثّالث: لكي أضع تصوّرا لحلقات يوتيوبيّة مقبلة في وقت ضيّق، لهذا أخذت شيئا من الرّاحة مع التّأمل والبحث، ثمّ ذهبت إلى فندق المؤتمر، وبعد الغداء كانت صورة جماعيّة، وطُلِبَ من الحضور أن يكون باللّباس الشّعبيّ، إلا أنني فضلت شخصيّا خلافه، واعتذرت منهم.
ثمّ كانت الورقة الأولى في اليوم الثّاني للمؤتمر مع الأستاذة رباب كمال من مصر، وهي إعلاميّة في الإذاعة، وكاتبة وناشطة ضّد التّطرف الدّينيّ، ومهتمة بالتّعايش وحقوق المرأة والإنسان في الوطن العربيّ، وكانت ورقتها بعنوان: الثّورات النّاعمة وآليات التّغيير المجتمعيّ: قضايا المساواة بين الجنسين، والحريات العقائديّة كركيزة لمواجهة التّعصب، وقد شدني عبارتها “التّسامح الانتقائي”، وهو تسامح مرتبط بالهوّيّة لا بالإنسان، وفعلا كلامها عين الصّواب، فأغلب الدّول والمتأدلجين يمارسون التّسامح الانتقائي، وقلّ من يمارس التّسامح بمفهومه الإنساني الواسع، خصوصا مع الانفتاح الإعلامي الواسع اليوم، لهذا بينت المحاضرة أنّ الثّورات الرّقميّة جعلت سقف الحريّة أعلى، فليس بحاجة أن يتعاقد مع صحيفة أو مؤسسة، أو أن يكون على تواصل مع أصحاب القرار، فقط عنده قلم ومدونة لا أكثر، ليعبر بهما عن حريته، وبهذا كانت نتائج جيدة على المستوى العمليّ، وهنا ضربت نموذجين في مصر، الأول لشاب مصري بسيط من الفلاحين اسمه نعيم، شارك في مبادرة لإلغاء الدّيانة من خانة البطاقة الشّخصيّة أو بطاقة الهوّيّة، ولمّا انتهت الوقفة شطب على مكان الدّيانة في بطاقته، ثمّ نزل إلى الرّيف وأخبرهم: لماذا تطلب النّاس هذا؟ قائلا لهم: الصّحة والتّعليم أهم من الدّيانة في البطاقة، إنّهم وضعوا الدّيانة في البطاقة ولم يضعوا فصيلة الدّم، ولو وقعت حادثة هل يحتاجون حينها إلى اسم ديانتك أم إلى فصيلة دمك؟!!
والنّموذج الثّاني لفتاة مصريّة اسمها سهام عثمان، أتت من مجتمع قبليّ متشدد ضدّ المرأة، وتقدّمت لانتخابات المجلس النّوبيّ كأول امرأة في مصر، وأصبحت لهنّ مناهضة نسويّة ضدّ العنف ضدّ المرأة، والعنف الجسديّ، مع تغيير الصّورة النّمطيّة للمرأة، وإشراك المرأة في العمل المدنيّ والحزبيّ، ولهنّ مدونات، مثل مدونة مصريات، ونشاطهنّ بني على اللّامركزيّة واللّاسلطويّة، أي ليس حكرا على منطقة، ولا تتبع أي سلطة.
وبعد هذه الورقة كانت استراحة سريعة، وفيها ذهبت إلى الأستاذة رباب كمال، وشكرتها على كلمتها، وأهديتها كتابي فقه التّطرف، وسرَت به، وكان بيننا بعض النّقاش في جوانب التّطرف.
ثمّ كانت ورقة الدّكتور نبيل إلياس، وهو عضو فخري في جامعة كارولينا الشّماليّة في شارلوت، وأستاذ سابق في جامعة مانيتوبا في كندا، ويعمل حاليا في منصب عميد التّعليم في مؤسسة الأعمال الأخلاقيّة لبناء المستقبل (EPPF)، وكانت ورقته حول مبادئ إقتصاديّة وتجاريّة لعصر جديد، وفيها تحدّث عن المبادئ الاقتصاديّة الّتى ترقى بالوضع الإنسانيّ، وتحقق له كرامته ومكانته الإنسانيّة، أيّا كان دينه وعرقه، وأيّا كانت جغرافيّة عيشه.
ثمّ كانت الحلقة النّقاشيّة تحت إدارة الأستاذة تماره إبراهيم، وأتبعت بدردشة مع الأستاذة إلهام كرم، وهي ناشطة اجتماعيّة، ومهتمة بشأن الحوار التّعايشي مع قادة الفكر في المجتمع الكويتيّ، وذكرت نماذج لذلك من المجتمع الكويتيّ .
وبعد الحلقة كان لدي موعد مع الدّكتورة سوسن حسني، وهي مصريّة مستقرة في بريطانيا، لأسجل معها حلقة حول اللّغة العربيّة وتعليم غير النّاطقين بها، ضمن برنامج حوارات الحلقة السّادسة والخمسين، وبثت على قناة أنس اليوتيوبيّة يوم الاثنين 26 أغسطس.
وسبق الحديث عن الدّكتورة سوسن في الرّحلة الشّيكاغيّة فقلت فيها: “الدّكتورة سوسن خريجة الدّفعة الأولى من الفتيات من جامعة الأزهر، بعدها حصلت على الماجستير [ودكتوراه] في اللّغة العربيّة، ودرّست هذه اللّغة لمدة أربعة عقود في مصر والإمارات والسّودان والصّين ونيوزيلندا، وأخيرا في بريطانيا”.
في البداية قالت: رحلتي مع النّاطقين بغير اللّغة العربيّة بدأت مع غير العرب في الإمارات والسّودان، وبعدها تطورت بذهابي إلى الصّين، فهي رحلة طويلة زمنيّا، فقد دعيت أنا زوجي لتدريسها في جامعة بكين في الصّين، وعشنا في الصّين حوالي أربعة عشر عاما، وتخرج على أيدينا العشرات من الطلبّة الجامعيين، وطلبة الدّراسات العليا، والجميل في الصّين اهتمامها بذلك، فإذا ذهبت إلى أيّ سفارة صينيّة في الدّول العربيّة تجد السّفير والقنصل يتحدّث بهذه اللّغة، ومن الصّينيين من نبغ فيها نبوغا كبيرا.
ولي عشق قديم مع اللّغة العربيّة، فأنا منذ الصّغر عشقت القراءة، ومن القراءة أحببت الأدب والشّعر، ومع دخولي إلى الأزهر تعرفت كثيرا على هذه اللّغة، وهي وإن كانت لغة قريش؛ إلا أنّ الّذي أعطاها الحياة هو القرآن الكريم، فجعلها تعيش حتّى يومنا هذا، ومن خلال الدّراسة والتّعمق وجدت أنّ اللّغة العربيّة من أغنى اللّغات، وقادرة على استيعاب أيّ تطور، ولكن للأسف أكثر العرب لا يعرفون قيمتها!!
لهذا محبتي وعشقي لهذه اللّغة جعلني أسعى إلى إحيائها ونشرها، فلمّا دعينا أنا وزوجي كخبراء للغة العربيّة في الصّين؛ هذه التّجربة عمّقت لدي فكرة أنّ هناك الكثير من غير العرب يرجون تعلمها، وذكرني هذا وقت انتشار الإسلام في بداياته في مناطق لا تتحدّث العربيّة، فعندموا دخلوا في الإسلام تبنوا لغة الإسلام وتعلموها، لهذا معظم علماء العربيّة من غير العرب، هنا أدركت أنّ هذه اللّغة تستحق أن تنشر، وأن يتمتع بجمالها أكبر عدد من البشر.
وفي الصّين تلقيت فرصة للمشاركة في مركز كبير لتدريس اللّغة العربيّة، وهو من أكبر المراكز في آسيا، واسمه مركز الإمارات للغة العربيّة، وكان منحة من الشّيخ زايد بن سلطان آل نهيان [ت 2004م]، وكان للمركز دور كبير في نشر اللّغة العربيّة هناك، وعموما نجد الصّين في الخمسينيات من القرن العشرين بعد مؤتمر الحياد الإيجابي بدأت تأسيس أقسام للغات المختلفة، ومنها اللّغة العربيّة، لشرح قضيتها للعالم، وقد كتبتُ كتابا عن اللّغة العربيّة في الصّين عام 1995م، حيث وجدت أنّ اللّغة العربيّة وصلت إلى الصّين قبل الإسلام [البعثة المحمديّة]، كما لي بحوث أخرى عن تحليل اللّغة وفي المناهج.
ثمّ ذهبنا إلى نيوزيلندا، وفيها كانت الفرصة في تأسيس أول كورس أكاديمي للغة العربيّة في جامعات نيوزيلندا، وكانت البداية في جامعة كانتربري، ووجدت في الغرب أنّ المتحدثين باللّغة الإنجليزيّة لا يحتاجون إلى تعلم لغة أخرى؛ لأنّهم يستطيعون بلغتهم الحديث في معظم أجزاء العالم، بيد أني اندهشت لمّا أسّست أول كورس أكاديمي في نيوزيلندا أقبل إليه عدد كبير لتعلم هذه اللّغة لم أكن أتوقعه، وفاقت اللّغات الأخرى، وكان هذه محل تساؤل للجامعة والأقسام فيها: لماذا هذا الإقبال إلى تعلم اللّغة العربيّة؟ واعتقد حينها ليس السّبب دينيّا؛ حيث الازدهار الّذي بدأ في الخليج، والثّورة النّفطيّة، أحدث نوعا من الطّفرة الاقتصاديّة، وبالتّالي جعل البعض يفكر بالعمل في الخليج، فضلا عن الدّراسات الاستشراقيّة لا زالت باقية ومستمرة أيضا لم تتوقف، وأنا ضدّ نظريّة أنّ الآخر يتعلّم اللّغة العربيّة لأجل تشويه الإسلام من الدّاخل، فسوء النّية لا تصل إلى هذه الدّرجة لكي يقضي عمره في دراسة لغة ليست سهلة، أي بالنّسبة للأجانب لغة صعبة، فلها تراكيبها ونظامها وكتابتها المختلفة عن اللّغات اللّاتينيّة واللّغات الأخرى.
وهناك صعوبات يواجهها غير النّاطق بالعربيّة، وقد وضعت بحثا في تحليل الأخطاء اللّغويّة للطّلبة الصّينيين لأجل وضع مناهج تناسبهم، وأحيانا المعوّقات من اللّغة العربيّة نفسها كأسلوب الكتابة، ومخارج الحروف مثل الحاء والهاء، ومعوّقات من اللّغة الأم الّتي يتحدّث بها الدّارس للعربيّة، تعوق تعلم لغة أخرى، حيث تجعل الطّالب يخطئ.
ومن متطلبات الوحدة في الجنس البشري وجود لغة مشتركة، حيث تشكل لغة التّفاهم بين الجميع، وقد لا يحتاج الإنسان إلى لغة، مثلا نجد أطفالا من خلفيات مختلفة يجتمعون ويتفاهمون ويلعبون وهم لا يفهمون لغات بعضهم، بيد أنّ اللّغة أساس يختصر هذا التّفاهم، وأنا أشجع على وجود لغة عالميّة يتكلمها الجميع، ولغة خاصّة في حدود الوطن أو الجنس أو الدّين، فوجود لغة مشتركة يحلّ العديد من المشاكل المترتبة من سوء الفهم، فالطّفل يعلم من الصّغر لغته القوميّة، ثمّ يعلم اللّغة العالميّة المتفق عليها، ولا يتعلمها كلغة ثانويّة؛ بل كلغة أصليّة مع نعومة أظافره، ولمّا يكبر ستكون لغته الثّانويّة كلغة الأم تماما، وحاليا تقريبا هي اللّغة الإنجليزيّة.
ففي العالم العربي والإسلامي مثلا توجد لغات ولهجات مختلفة، إلا أنّ اللّغة العربيّة الفصحى وحدت التّفاهم إلى حدّ ما، وفي الصّين مثلا توجد ست وخمسون قوميّة، لهم خلفيات ولغات مختلفة، ولمّا بدأت جمهوريّة الصّين الشّعبيّة قررت أن تدرس اللّغة الصّينيّة الفصحى [الماندرينيّة] في جميع المدارس في كل مناطق الصّين، بالإضافة مع لغة الطّفل الخاصّة به، فأصبح وجود تفاهم واتّحاد بين جميع هذه القوميات، وفي الماضي الكتابة واحدة، لكنّهم لا يفهمون معنى الكلمات، ووجدت مثلا الجدّة لا تفهم حفيدها؛ لأنّه يتكلم بالفصحى وهي لا تفهم الفصحى، وتقريبا هذه المشكلة انتهت في الصّين.
وسابقا ارتبط انتشار اللّغة بالقوّة الاقتصاديّة والاستعماريّة، واللّغة الإنجليزيّة اليوم لغة التّكلنوجيا والاقتصاد، فأصبح حتّى الفرنسيين والإيطاليين والأسبان مضطرين إلى تعلم هذه اللّغة، ولو خيرت في اختيار لغة عالمية أرى من وجهة نظري أنّ اللّغة الوافية الكافية هي اللّغة العربيّة، لكونها لغة غنيّة بالمفردات، تحتوي على جميع المكونات لكي تكون لغة عالميّة، ولا أقول هذا تعصبا منّي لكون العربيّة لغتي الأم، بل من خلال دراساتي وأبحاثي، وقد قضيت عمرا طويلا في هذا في الخليج والدّول العربيّة والصّين وأروبا، ووجدتها لغة غنيّة، وليس هذا رأيي فقط؛ بل هو رأي الكثير من الكتّاب والباحثين.
وأنا اليوم أتأسف أن أجد الشّباب العربي يضع مصطلحات أو مفردات إنجليزيّة أثناء التّحدث بالعربيّة، مع أنّها وافية وكافية، وأنا عشت أكثر من أربعين سنة خارج الوطن العربي، إلا أنني أحاول دائما أن أتحدّث بالعربيّة كاملة، ولا أمزج بين الإنجليزيّة والعربيّة مثلا، وعموما اللّغات تتطور، فاللّاتينيّة خرج منها العديد من اللّغات، والعربيّة قوّتها في مكوّناتها وأسلوبها [وهي متطورة أيضا]، وسهلة التّطوير والتّبسيط والتّطويع، ولكن أنا ضدّ الكتابة بالعاميّة، فهذا إماتة للغة وتضييع لها ولجمالها، أمّا الحديث فلا بأس.
وأمّا الجانب الجمالي فلكل لغة لها جمالها، فجميع اللّغات لها خصوصيات ومشتركات جماليّة، والّذي لا يتكلم لغة الآخر قد لا يشعر بالجمال الموجود في تلك اللّغة، واللّغة الإنجليزيّة مثلا فيها جمال وأدب ورقيّ أيضا، وهذا لا يقارن بين لغة وأخرى، فلكل لغة خصوصياتها.
وفي اللّغة الإنجليزيّة عموما العديد من المفردات أخذت من العربيّة، وهذا مثبت في القواميس الإنجليزيّة، كما أنّ العديد من المفردات في الإنجليزيّة أضيفت الآن إلى العربيّة، وثلث اللّغة الأسبانيّة أخذت من العربيّة.
وفي الختام تقول الدّكتوره: رسالتي للجميع أن نحافظ على هذه اللّغة الجميلة، وأن نتحدّث بها دائما، وأن نفتخر بها، وهي اللّغة السّادسة من لغات الأمم المتحدة.
وبعد تسجيل الحلقة ذهبنا إلى المشي أنا والأستاذ بيان النّوري بصحبة الأستاذ محمود روحاني، حيث يوجد ممشى تجاري جميل ومنظم قريب الفندق من الجهة الأخرى، فيه ممشى طويل مزود بكراسي للجلوس ودورات مياه، مع محلات عديدة ومطاعم، وذهبت هناك إلى مكتبة كبيرة من طابقين تشبه في خدماتها مكتبة جرير، أغلب كتبها باللّغة الإنجليزيّة، كذلك ذهبنا إلى أحد المطاعم، وتناولنا العشاء في مطعم للوجبات السّريعة، ثمّ ذهبنا إلى محل الآيسكريم، حيث يصنع بالفانيلا، وكأنّه طحين خبز وضع في صحن مستدير، الفارق هنا الصّحن بارد جدّا، ويستخدم ذات أدوات طبخ الخبز، فالّذي يراه من بعيد يتصوره يطبخ خبزا، ثمّ يقطعه إلى قطع مستطيلة، وبعدها يلفها على شكل دائري في كوب الآيسكريم، وهذا الشّاب في بداية العشرين، وأصله من إيران، وسألنا هل حضرتم للمؤتمر، قلتُ له: نعم، قال: يوجد بعد أسبوع ذات المؤتمر ولكنّه بالفارسيّة وأنا أحضر، وأخبرت أنّ المؤتمر بالفارسيّة يحضره عدد كبير يتجاوز ألفين شخصا.
ثمّ بعدها رجعنا إلى الفندق، وحضرنا عرض فيلم “محبس”، وكما جاء في الموسوعة العالميّة ويكبيديا: “فيلم سوري لبناني يعود إلى عام 2017م من إخراج صوفي بطرس، يناقش قضيّة الصّراع السّياسي بين لبنان وسوريا وأثره على الواقع الاجتماعي سلبا، متمثلا في أم لبنانيّة تحمل كرها للسّوريين بسبب فقدان أخيها نتيجة الوصاية السّوريّة على لبنان، فهو يغرس قيمة التّسامح، ويطرح إشكاليّة التّعصب والكراهيّة ورفض الآخر من خلال محاكاة الواقع السّوريّ اللّبنانيّ”.
وبعد الفلم رجعنا إلى النّزل، لنستعد ليوم جديد ومع اليوم الأخير من المؤتمر، وتسجيل حلقة مع الأستاذ بارازان باران رشيد حول تجربة كردستان العراق في التّعايش الدّيني كما سنرى في الحلقة القادمة.