سالم بن حمد الحكماني
أثبت أبناء عمان أنهم جند مخلصون لها ولترابها في السراء والضراء وحين البأس ، وأثبتوا انهم في الشدائد رجال – وأي رجال – ولقد أثبتت المدرسة العمانية بمناهجها الإنسانية والاخوية والتكافلية والاجتماعية أنها أفضل المدارس على الاطلاق ، وأن مناهجها في الوفاء للأرض والإخلاص للوطن يجب ان تدرس لكل العالم ، وأن تترجم معاني مفردات هذا الحب والتراحم لتكون نبراسا يستضئ به أبناء الجيل القادم في الوطن العربي الكبير .
لقد أثبتت التجربة العمانية في مواجهة الأزمات كفاءتها باقتدار لتدار بأيدي وطنية خالصة من الألف الى الياء آخذة في الحسبان أن الأوطان لا تبنى الا بسواعد أبنائها والمخلصين من رجالها وشبابها ، وان الأنا وحب الذات مفاهيم مغلوطة لا تنطبق على محتويات المناهج العمانية في التعامل مع إدارة الأزمات والكوارث ، وانما مناهجها تركز على حب العمل التطوعي بإرادة عفوية وروح تلقائية تضع مصلحة الوطن وأبنائه فوق كل اعتبار … وفي ملحمة وطنية إنسانية اجتماعية جميلة سجلت عماننا الحبيبة بحروف من ذهب تاريخها الناصع البياض على أرض الباطنة المحروسة بعناية الله ، لتعلو رياح الإنسانية على رياح شاهين العاتية ويطفو كل خير تم طمره تحت ركام مخلفات شاهين .
عصفت رياح شاهين بسعف نخيل سهول الباطنة وشجر الأمبا والليمون ، ولكنها لم تعصف بقلوب مؤمنة كانت مع الله في الذكر والتهليل والتكبير لتخرج من بين ثنايا الركام نفوس راضية بقدر الله وحكمته وإرادته ، نفوس سلمت أمرها الى الله فكانت الإرادة بقوة وشموخ قلاع السويق وبقوة إيمان وشواهق وعلو قلاع حصن الخابورة ،
حلق شاهين بجناحيه لينقض على جزء عزيز من تراب عمان الغالية ، ولم يكن ليعلم بأن كل شبر من عمان هو نفسه عمان الأم التي لا تتجزأ ولا ولن تتجزأ يوما ما لأنها روح واحدة في جسد تمتد جذوره مئات الكيلومترات عمقا وغراسا في تراب وطين أرض طيبة ثابتة البنيان متراصة الصفوف ، كل القلوب تهفو الى الباطنة ، وكل أهل الباطنة هم أهل عمان ، فوجع السويق والخابورة والمصنعة وكل ولاياتها المجروحة هو وجع عمان بأكملها ، وعندما اشتكت أعضاء من جسد عمان تداعت لها سائر الأعضاء بفيض من الرحمة والإنسانية والود والمحبة والإخاء ، هبت عمان وتداعت من أقصاها الى أقصاها ، ومالت نفوس أهلها نحو الأنين والوجع والألم الذي أصاب إخوة أعزاء ، فشمرت سواعد الخير تحمل الخير – كل الخير – وتتابعت القوافل متراصة لتضيء دروب الباطنة التي انقطت عنها الكهرباء وتقطعت بأهلها وسكانها السبل ، فيض من رحمة ينساب عفويا دونما نداء ودونما استغاثة سوى إحساس الوجدان وشعور المحبة ورباط الود حرك تلك الجموع الغفيرة وهي تحمل أمل التلاحم والتكاتف على ظهورها ، وفي وجدانها ومشاعرها أحاسيس جياشة نحو الجزء الجريح من عمان ، ارتفعت أصوات الشباب تنادي { حن في الباطنة جدامكم } ولا جدال على هذه الجملة ، ولا اختلاف على تلبية النداء لأن أبناء عمان أوفياء مخلصون منذ ان خلقهم الله ، فهم مشاعر تزف الخير الى أي أرض تطلبه ، تسابقت جمعيات الخير والجمعيات الخيرية والأهلية والمجتمع المحلي بأسره والذي تربى على الخير الى حاجتهم ، فهذه هي ساعة الحاجة ، وهذه هي مواسم البر والإحسان فكان السباق محموما وكان الغراس أطيب الثمر .
ولأن الباطنة رمز من رموز الوفاء وستظل كذلك بحول الله كانت سحائب الخير تمطر عونا ونجدة وتعاونا وتكاتفا لتعيد الحياة الى الجسد الشاكي من علة لتعود ينابيع البسمة من جديد ولتجري دماء الحياة فيها وقد تعافت كليا من بعد عناء .
سطر الشباب العماني أروع ملحمة وطنية تمجد الإنسان وتعلي من كرامته ، فقد تراصت أجناس من شباب وكبار سن وأطفال ونساء كذلك ، كل يساهم ويتبرع ويعمل وينظف ويكنس ويحمل وينزل ويفرش الأرض ورودا ليعود لسهل الباطنة البهاء المعهود ، أعلنت حالات الطوارئ الأهلية في جميع المحافظات دون استثناء فكانت جسور المحبة تمتد من ظفار جنوبا الى مسندم شمالا ، ومن الشرقية شرقا الى الظاهرة والبريمي غربا ، وقد سجلت جميع ولاياتها ونياباتها أروع التضحيات في البذل والعطاء .
نحن دولة على رأسها قيادة واعية ونيرة ومستنيرة ، وقطاعات جميع قوات السلطان المسلحة بجميع تقسيماتها من حرس وجيش وشرطة وقوات أمن أخرى تمثل الحكومة نفسها ، ونعيب كل العيب على غير المنصفين قولهم : بأن الحكومة تأخرت في الاستجابة والتحرك والإغاثة ، والحقيقة بأن الحكومة هي أول من تحرك ورياح شاهين العاتية مازالت تعصف بالوطن ، وهي أول من تحرك والسيول الجارفة تصارع قوى البنية التحية للشوارع والطرقات ، وهي أول من تحرك في سواد الليل الحالك والناس تغط في سبات عميق ، لقد أدى أفراد هذه القوات وهذه التقسيمات ووحداتها واجباتهم المنوطة بهم على أكمل وجه ، ولا زالوا يؤدون ذلك بكل همة واقتدار فلهم منا كل الشكر والتقدير والاحترام .
يتألق المتميز بأخلاقه وروحه المرحة واسلوبه الشيق / مبارك المعشني وفريقه المعاون له من ظفار الخير والجود والكرم والسخاء ، ليعزف سيمفونية الإخاء والنجدة والإغاثة من أرض الجنوب العزيزة المبخرة بأجود أنواع اللبان الحوجري ، والمفروشة بسجاد الخريف الأخضر ، والتي تطهرت بأعذب مياه عيون جرزيز ودربات لتشتل سحابة جود وكرم وسخاء لتمطر مزونها في سهل الباطنة ، تتقاطر الشاحنات كسيل جارف تحدر من علا في هبة ظفار التي لم يشهد لها تاريخنا الحديث مثيلا ، بلى إنه سيل تحدر من ربوع المجد ومن قمم جبال ظفار الشماء التي لا تنام والباطنة تئن وجعا وقد عرت السيول الجارفة كل شوارعها وطرقاتها وجرفت بيوتها ، وتخالط طين سهولها بصخور جبالها ورمال سواحلها الغالية ، لا تنام على ضيم وأبناء الباطنة يتوسدون العراء وهم في وطن أسسه الراحل جلالة السلطان قابوس – طيب الله ثراه – على أسس المحبة والاخاء والتواد والتراحم ، ويسير دفته نحو أعالي الأفق البعيد والمشرق بإذن الله تعالى جلالة السلطان هيثم – رعاه الله وسدد على طريق الخير خطاه .
هناك أناس قوميون بروح الفكاهة يؤدون رسالتهم المجتمعية في قالب من خفة الروح وطلاقة اللسان ، يخففون عن إخوانهم وعن الناس وقع التعب والمشقة والعناء ، ترتاح لهم النفوس ويلين لهم الجانب ، ولا يعاب على الشباب المتطوعين الروح المرحة عندما يترنمون ببعض الأهازيج والأناشيد والشلات والشيلات والأغاني ، فقد كان ذلك نهجا انتهجه آباؤنا وأجدادنا عندما كانوا يؤدون بعض المهام والوظائف الصعبة ، فهناك أغاني وأهازيج كانوا يرددونها أثناء حصاد النخيل { الجداد } وهناك أخرى كانوا يؤدونها أثناء تنظيف السفن على الشاطئ وأثناء قيامهم بمهام ما يسمى محليا بـــــــــ { التيحيبة }
تجثو الباطنة على ركبتيها لتنفض عنها غبار شاهين ولتعود الى طبيعتها الساحرة كما لو كانت من ذي قبل ، ترفرف على بيوتها وحاراتها وطرقاتها وأزقتها رايات السلام والأمن والاطمئنان ، تنهض لتستنشق نسائم بحرها العليل الهادئ ورياحين الكيذى وعطر ورود سهولها الندية لتقف شامخة من جديد وقد انتصرت بسواعد أبنائها الذين كانوا صفا واحدا ، وحصنا منيعا ، وبناء شامخا تفاخرت به كل الأمم من حولنا ، وهنا نقول فعلا بان :” عمان عظيمة بأبنائها ” ولا يبني الوطن إلا أبناؤه المخلصون .