بدر بن سالم العبري
في صباح يوم الاثنين الثّاني عشر من أغسطس حضرتُ مشرق الأذكار في دالاس بعد شروق الشّمس، وشاركنا أحد الأخوة من المكسيك، وكان يتمتع بالصّوت الحسن في الدّعاء، وهنا الكل يدعو بلغته، بالعربيّة والإنجليزيّة والأسبانيّة حسب المجتمعين، ومجلس الأذكار مجلس ذكر بهائي، إلا أنّه يحضره من جميع الأديان، ويذكرون الله مجتمعين، كلّ واحد يأتي بدعاء من حفظه أو يقرأ من كتاب، أو حتّى من كتابه المقدّس كالقرآن أو الكتاب الأقدس مثلا، والباقي يصمت ويتأمل، وأفضل وقته عندهم وقت السّحر كما جاء في كتاب الأقدس: 115 “طوبى لمن توجه إلى مشرق الأذكار في الأسحار ذاكرا متذكرا مستغفرا، وإذا دخل يقعد صامتا لإصغاء آيات الله الملك العزيز الحميد”، إلا أنّهم يدعون في أيّ وقت، ويفضلون إن لم يكن وقت السّحر في أول الصّباح بعد شروق الشّمس.
وأصل مشرق الأذكار كما جاء في كتاب فهم الدّين البهائي لندى مؤمن وموجان مؤمن ص: 237 عبارة عن “أبنية ومؤسسات مكرّسة لحسن سير المجتمع روحانيّا واجتماعيّا، ولتوفير حاجاته التّربويّة والتّدريب العلميّ، بما فيها بيت للعبادة في وسطها، وجامعة، وفندق للمسافرين، ومستشفى وصيدليّة، ومدرسة للأيتام، وبيت للعجزة”، وسبق أن تحدّثنا في الرّحلة الشّيكاغيّة عن مشارق الأذكار كمبنى للعبادة في زيارتنا لمبنى مشرق الأذكار في شيكاغو، لهذا لفظة مشرق الأذكار في الأصل عند البهائيّة إذا أطلقت فيراد بها بيت العبادة نفسه، إلا أنّها أيضا تشمل “أي مبنى أو غرفة مكرّسة للتّعبد، أو لجلسات الدّعاء، وبالأخص الدّعاء عند الفجر”.
وبعد مشرق الأذكار أعددنا الفطور، ثمّ ذهبت إلى ستار بكس قريب من النّزل، ثلاث دقائق بالسّيارة، وستار بكس كما جاء في الموسوعة العالميّة ويكبيدا “شركة مقاهي أمريكيّة، بدأت عام 1971م في سياتل بولاية واشنطن على يد ثلاثة شركاء، وهم مدرس اللّغة الإنجليزية جيري بادوين، ومدرس التّأريخ زيف سايغل، والكاتب غوردان بوكر”، جلست فيه لأعدّ بعض الجلسات الحواريّة، وأرفع بعض الحلقات اليوتيوبيّة، وكنت أعاني في النّزل من ضعف الأنترنت، فاشتريت شريحة أنترنت، ووفيها النّت والاتصال مفتوح لمدة شهر، وبمبلغ زهيد جدّا، فقمت بالتّحميل والرّفع في أيّ مكان، وظلّت معي حتى رجعت، ورأيت في ستار بكس تزاحم الطّلاب، ويرطمون بأحاديث لا أفهمها إلا كلمات عابرة، وهو المكان المناسب أيضا للتّعارف واللقاءات والحوارات.
وفي الظّهر ذهبنا إلى مؤسسة Metro Dallas Homeless alliance في منطقة Swiss Ave في دالاس والمعنية بعلاج قضيّة المشردين في دالاس، حيث كان لدينا موعد مع الحاخام رابي دايفيد جريبر، وسبق الحديث عنه، واستقبلنا بحفاوة، وفي البداية قال لي: هل تريد الشّاي أم الماء؟ فقلت له: الماء؛ لأنّه لو قلت له شكرا لك، لن يرجع مرة أخرى إلى سؤال ذلك، وهذه عادة وجدتها عندهم، مرة واحدة يخيرونك، وعموما ذهبنا إلى مكتبه في المؤسسة، وسجلنا الحلقة (47) من برنامج حوارات، وكانت بعنوان: تجربة مؤسسة MDHA في علاج قضيّة المشردين في ولاية تكساس، وبثت يوم الأربعاء 14 أغسطس.
والحاخام رابي دايفيد جريبر يعمل في هذه المؤسسة بشكل رسمي من عام 2014م، وهذه المؤسسة تأسّست في سبتمبر عام 2002م، وهي شركة لا تساعد المشردين مباشرة، وإنّما تتواصل مع الشّركات والجمعيات الخيريّة المهتمة بالفقراء والمحتاجين والمشردين واللّاجئين، لكي يسهل الوصول إلى المشرد بشكل منظم وسريع معا.
ويقول بعد التّعريف بذاته وبالمؤسسة أنّه يوجد في الولايات المتحدة الأمريكيّة حتى الآن خمسمائة وخمسون ألف مشردا، منهم ثمانون بالمائة يحملون الجنسيّة الأمريكيّة، والباقي من اللّاجئين من دول مختلفة، وإحصائيّة عدد المشردين تكون في العشر الأخير من شهر يناير من بداية كلّ عام، ولو وجد مشرد واحد قبل يوم يدخل في الإحصائيّة.
وفي دالاس يوجد أربعة آلاف وخمسمائة وثمانية وثلاثون مشردا حسب إحصائيات عام 2019م، بزيادة تسعة بالمائة.
وبدأت قضيّة المشردين في أمريكا في السّبعينيات، خصوصا أيام كارتر، وفي عهد كلينتون وبوش الابن وأوباما وترامب تمّ الاهتمام بصورة كبيرة بقضيّة المشردين، ولهذا قلّ عدد المشردين بصورة أكبر.
والحكومة الفدراليّة لا تساعد المشردين بشكل مباشر، وإنّما تدعم المؤسسات القائمة بهذا العمل، فهي تدعم سنويّا بمبلغ بليونين فاصل ستة دولار، وهذا المبلغ في جملته ليس كبيرا، وهذه المؤسسة تتلقى دعما كغيرها من الفدراليّة، ومن الولاية، ومن الجانب المحلي، بجانب التّبرعات الأهليّة ومؤسسات العمل المدني والأماكن الدّينيّة، وبالتّالي تقوم الشّركة بتوفير بيوت للمشردين، ولصعوبة توفير البيوت حاليا يوفرون قاعات كبيرة، فيها أسرة وطاولات، تكون حلّا عاجلا حتى يتم توفير البيوت، لكي لا ينامون في الشّوارع والطّرقات، والحكومة تريد منّا توفير بيوت بشكل عاجل، ولكن ليس من السّهولة توفير ذلك في أمريكا، فيحتاج إلى وقت، مع الاهتمام بجانب التّعليم والصّحة والعلاج.
وأمّا بالنّسبة إلى الأديان فيختلف من مؤسسة دينيّة إلى أخرى من حيث مساعدة الأديان، لكن في الجملة أغلب المؤسسات الدّينيّة من كنس وكنائس ومساجد ودور عبادة تساهم في مساعدة المشردين، وبعض المؤسسات الدّينيّة بذاتها توفر قاعات تشمل أسرة وطاولات للمشردين، مثل مؤسسة Faith Forward Dallas لمجموعة من رجال الدّين من أديان مختلفة، وهدفهم المساهمة في علاج قضيّة المشردين، كما أنّ الشّركة أيضا تواصلت مع كنس وكنائس ومساجد ودور عبادة للمشاركة والمساهمة؛ لكنّها رفضت ذلك أو لم تبادر إلى المساهمة، لاعتقادهم أنّ دورهم في دور العبادة يقتصر عند الطّقوس وممارسة الشّعائر، وهذا ليس من اختصاصهم.
والعديد من المؤسسات والمتدينين يساعدون لاعتقادهم أنّ الله أمرهم بذلك، فيساعدون الجميع على مبدأ الإنسانيّة، بلا تفريق بين مشرد وآخر، بغض النّظر عن دينه وتوجهه، وبعض المؤسسات الدّينيّة هدفها تبشيري للدّخول في دينه أو مذهبه، وشركتنا لا يهمها هذا، كان هدفه إنسانيّا أو تبشيريا، فنتعامل مع الجميع؛ لأنّ الغاية مساعدة هذا المشرد، وعمل الشّركة إنسانيّ بشكل مطلق.
والأصل أنّ أغلب النّاس لا يصلون إلى درجة التّشريد لتوفر ثلاثة أغطية: الأول غطاء العمل، فإذا كان يعمل فيستطيع توفير إيجار البيت أو الغرفة، والثّاني المال المدخر، فإذا خسر عمله، وكان لديه مبلغ من المال، فسيحميه حتّى يوفر عملا بديلا، والثّالث الأسرة والأصدقاء حيث يحمونه من التّشريد حتّى يتيسر أمره، فمثلا اللّاجئين من المكسيك، ونسبتهم في تكساس ودالاس مثلا مرتفعة، ومع ذلك تجد القليل جدّا من المشردين أصولهم مكسيكيّة بسبب العلاقات الأسريّة والاجتماعيّة بين المكسيكيين كبيرة عكس الأمريكيين.
ولمّا نقرأ الخطّ الأفقي لأسباب التّشريد قد يتصور البعض أنّ لديهم مشاكل عقليّة، أو كانوا ضحيّة مخدرات أو إكثار من الشّراب، ولكن ليس هذا السّبب الرّئيسي، وإنّما السّبب الرّئيسي هو التّفكك الأسري والاجتماعي، وحاليا لا يهمنا الاشتغال بالأسباب أيّا كانت، بل يهمنا توفير مأوى للمشردين، ثمّ نهتم بعلاج هذه الأسباب.
والضّرائب ليست سببا كبيرا في التّشريد إذا كان لديه عمل أو دخل، وإنّما المشكلة الرّئيسة العلاج، فهو يقود إلى التّشريد، وأغلب القروض في أمريكا لأجل العلاج، وثلث هؤلاء قد يفلس، فيقعون في التّشريد، مثلا امرأة تعمل في شركة، وقد أصيبت ابنتها بخلل في الأذن، وتركت يوما واحدا فقط عملها، وبالتّالي فصلت عن عملها، فلم تستطع دفع إيجار البيت، فشردت هي وابنتها.
وأمّا المجتمع من حيث نظرتهم إلى المشردين، فتوجد فئة تنظر إلى أنّهم بشر لا يفرقون عن غيرهم، فقط يتمايزون أنّ هذا لديه مأوى عكس المشرد، ولكن للأسف أكثر فئات المجتمع في أمريكا ينظرون إلى المشرد نظرة دونيّة لسببين: إمّا أنّهم لم يعملوا بإخلاص، أو لكونهم خالفوا القانون، وهذا عكس الإنسان النّاجح، وهذا ليس سببا رئيسا في الحقيقة، فالعديد من النّاس توفرت لديهم فرص عمل ذهبيّة ونجحوا فيها، بينما الآخرون لم تأتهم هذه الفرص الذّهبيّة من العمل، أو لم ينجحوا في عملهم لأسباب متعددة، فوقعوا في التّشريد، فليس علينا أن ننظر إليهم نظرة دونيّة، وإنّما نساعدهم في الرّجوع إلى حياتهم الطّبيعيّة كباقي البشر.
وعدم مساعدة المشرد في النّهاية يترتب عليه خطورة أكبر، فيكونوا عرضة لشخصيات مجهولة تستغلهم في الإرهاب أو المخدّرات أو لأغراض أخرى.
وعموما شركتهم عملت بشكل جيّد في علاج هذه القضيّة، ووحدوا الشّركات المساهمة في ذلك اجتماعيّة ودينيّة وأهليّة، ليعملوا تحت مظلّة واحدة، وبالتّالي اختصر العلاج، وحال استمرارنا على هذا العمل، وبهذا العطاء والتّعاون والجديّة؛ سيقضون على هذه الظّاهرة بعد خمسين عاما، بل وقبل ذلك، صحيح عقبة توفير البيوت في أمريكا من أكثر العقبات، ومع ذلك نسعى لتحقيق أهدافنا.
وفي الختام يقول في أمريكا فئة قليلة تعيش في درجة الغنى، وأغلب الشّعب في أمريكا مستواه متدني، فمثلا الدّول الإسكندنافيّة قدّمت نموذجا رائعا، ففي أمريكا إذا خسرت وظيفتك تخسر تأمينك الصّحي، وبالتّالي تقع في الدّيون، فالإفلاس والتّشريد، أمّا في الدّول الإسكندنافيّة ولو خسر عمله لن يخسر مكانته الاجتماعيّة كالتّأمين والصّحة والعلاج والتّعليم، بل لن يخسر طعامه، فأتعجب من عالم يتمتع بالغنى، وعوالم أخرى تعيش تحت خط الفقر، فالأصل تقسيم هذه الموارد بشكل عادل بين البشر، لتحقيق الإنسانيّة بين الجميع، فلو نزلت مخلوقات من السّماء لتعجبت من حال هؤلاء البشر، وقد أعطاهم الله هذه الموارد الكافية في الطّبيعة، وأمم منهم تعيش تحت خط الفقر!!!
وبعد الحلقة ودّعنا الحاخام رابي دايفيد، والأصل لدينا موعد معه لزيارة الكنس اليهودي، فلم أزره مسبقا، ورحب بالأمر، وفعلا تواصل معنا لاحقا، ولكن للأسف كان جدولنا مزحوما حينها، وعسى يكون ذلك مستقبلا، لنذهب مرة أخرى إلى مول نورث بارك لتناول الغداء، ودبلجة هذه الحلقة، وبعد جولة سريعة في دالاس رجعنا إلى النّزل لسنسعد ليوم آخر!!!