فيصل الراشدي
في رحلتنا إلى فيتنام، اتفقنا مع صاحبي “أبي عزان” أن نضع شعارا لأنفسنا وهو: “ليلة واحدة تكفي في كل فندق”، لننطلق في الصباح وفي العودة مساء نبيت في فندق مختلف، ففي فيتنام جربنا 8 فنادق، ونفس الخطة ستكون في بلاد “الأوزبك”.
فندق الليلة الأولى كانت غرفة رباعية لأن عددنا أربعة في الأصل، ولكن فحص كورونا اختطف الرابع في يوم السفر، كان فحص أبي زهير إيجابيا، صفعة حزن لازمتنا طوال الرحلة.
الغرفة كانت فوق السقيفة، هيكل هرمي يظللنا ينحدر منسابا على رؤوسنا، لا يمكن أن تنتصب واقفا بين موضع الرأس، ليس لدينا مشكلة أن نجرب هذا الوضع وقد اخترناه هكذا لأننا سنبقى فيه خمس ساعات فقط، فندق بسيط تديره أسرة أوزبكية تتوسطه شجرة صنوبر، تظلل البركة الحلزونية الصغيرة.
أما اليوم الأول فبعد رجوعنا من زيارة أبرز معالم طشقند فقد حجزنا فندق 1946، لأنه قريب من وسط المدينة، غرفتان لأربعة أشخاص، زملائي أخذوا غرفة ثنائية، واستحوذت على غرفة بمفردي، الفندق نظيف وجميل يحمل الديكورات الأوزبكية.
في الصباح الثاني، السائق كان أسبق منا فقد اتفقنا على الاستيقاظ في السابعة، إلا أن إرهاق اليوم الأول أثّر علينا فلم نستيقظ إلا بهاتف من مكتب الاستقبال.
كانت الوجهة إلى جبال طشقند يسمونها تشرواق، جميلة عندما تخرج من أفواههم، حيث الطبيعة والأنهار والبحيرات، من خلال تواصلنا مع مرشدين سياحيين كانوا يصرون على أن نكون في طشقند أربعة أيام، وأن نخرج للجبال ونظل طويلا، لكن هدفنا ليس طشقند ولا جبالها فقط ومع ذلك خصصنا يوما لها.
قاد أبو عائشة الأوزبكي سيارته الشيفروليه وهي السيارة الأكثر انتشارا معهم، لأن لها مصنعا في أوزبكستان فاحتكرت السوق لها.
مباني المدينة منذ الحقبة السوفيتية الباهتة، المرصوصة لتستوعب أعدادا غفيرة من البشر تحكي زمنا مؤلما مر على المدينة، المباني ومعالم المدينة تتراجع إلى الخلف وسهل أخضر يفتح ذراعيه لنا، حقول دوار الشمس والذرة على جانبي الشارع، الطريق يمر على قرى صغيرة محاطة ببساط أخضر، حقول الفواكه تقف أمامها نسوة يفترشن ما جنينه من حقولهن، وقفنا أمام نسوة وضعن طاولاتهن الممتلئة بالفواكه، حبات صفراء تشبه الكرز! قالوا لنا إنه كرز أصفر، وبلا شك اشترينا من كل الفواكه، خاصة الكرز الأصفر الذي كان طعمه يميل إلى الحموضة ذكرني بالنبق عندما نقطفه من وديان قريتنا.
قال لنا لديها لبن حصان هل تجربوه؟! قلنا نعم جربنا لحم الحصان أمس، وحفص كان له طبق دسم منه، جرب أبو عزان أولا، انكماشات وجهه تدل على أنه شرب كوبا من الليمون، ثم جربته لكن طعمه أقرب إلى الليمون من اللبن، مزقة أو مزقتان.
المناحل على طول الطريق، منازل مبنية من طابقين كلها مناحل، وقفنا أمام أحد المنازل، دوره العلوي مجموعة من خلايا النحل، ودوره السفلي للسكن، كوخ خشبي صغير، ينتصب أمامه برميل خشبي، خرج رجل أشقر فارع الطول، إنه ذكرى بشرية للاتحاد السوفيتي، أدخلنا ففتح لنا مجموعة من البراميل كل برميل يدل على موسم من مواسم السنة، ألوان وقوام ونكهات مختلفة، تذوقنا نوع عسل كان أكثر نكهة من السابق، قال إنه بري، دخل إلى غرفة صغيرة وأحضر علبة عسل لونه أسود داكن، وبحركة وتدية من يده أدركنا مقصوده! ضحك الجميع.
واصلنا المسير صعودا نحو جبال تشرواق، حتى وصلنا إلى التلفريك، قال هذا أقدم تلفريك وأرخص، يوجد في المنطقة ثلاثة تلفريكات متقاربة، تنشط وقت التزلج الناس تتوافد، وقفنا ننتظر الدور، أبو عائشة الأزبكي سبقنا وظللنا ننتظر فتح شباك التذاكر، لكننا وقفنا بعيدا عن الصفوف، صاح علينا أبو عائشة تقدموا، رد عليه أبو عزان كيف نتقدم والصفوف أمامنا، كلمهم فنحن عجم معهم، لا يفهون إلا الأوزبكية أو الروسية، أخبرهم بشيء فبدأوا يفسحون لنا الطريق مع غمغمات وكلمات أوزبكية متذمرة أننا تقدمنا عليهم، لم نرتح لهذا التصرف وقلنا له، لا يرضينا أن نسمع تضجر وأننا نتقدم دورنا، لكنه قال أنا كنت سابقا عليهم، بجانبنا نساء خمسينيات أخذ الدهر جزء من الحسن وأبدلهن بكومات اللحم، بعضهن لبس الحجاب بطريقة عفوية وبعضهن لم يلبس إلا جلابيبهن الطويلة.
التذاكر جدا رخيصة تقريبا ريال عماني، ربما راجع إلى نوعه البسيط، مقعدين حديدين وقضيب حماية تضعه بنفسك عندما تركب وهو يسير، الأمر يبدو خطيرا في أول برهة، لكن عندما تمر بك أمتارا تعتد الأمر، المسافة طويلة إلى القمة، أسرة من شخصين، وكل أب يأخذ طفله في ركبته، ركبت ومعي حفص، هاتفي متمسك به جيدا في أول الأمر خشية السقوط، إلا أنه لم يمر إلا القليل وأخرجته لألتقط الصور، أشجار الجوز تحتنا تلامس الأقدام، كذلك حقول التفاح، مجموعة من البستانيين ينشطون في حقولهم، حمير تنتظر دورها في رفع حمولتها.
في القمة بعض الأنشطة الترفيهية، أحصنة ودراجات رباعية، شجرة يضع الناس عليها تمائم أمنياتهم، المرأة الأوزبكية صاحبة الشماغ تفتر عن ضحكة وتمد لنا ببعض الحلويات، شكرناها ثم عدنا إلى الأسفل.
اتجهنا إلى بحيرة شيرواق، كانت من أعلى الجبل تتدرج ألوانها بين اللازوردي والفيروزي، الشاطئ ممتلئ بالناس، الدراجات المائية والقوارب، نزلنا ودخلنا برسوم رمزية لمواقف السيارات، في الأسفل وعلى طول الشاطئ وضعت جلسات مظللة مفروشة يمكن للشخص أن يستأجر أحدها ويجلس.
لم نطل الجلوس كان الهدف الذهاب إلى منطقة جبلية بجوار النهر، ابو عائشة فاجأنا بشراء لحم ودجاج لعمل الشواء، وصلنا منطقة فاصلة بين قريغزستان وأوزبكستان، استأجرنا جلسة تحت الأشجار، مفروشة وفي وسطها طاولة محاطة بالوسائد والفرش.
عدة مجموعات رجالية في المكان، كبار سن وشباب، المكان هادئ إلا من خرير المياه وزقزقة العصافير، جلسات تراثية بسيطة وحفلة استرخاء في المكان.
ماء النهر يتدفق بغزارة، ماءه باردا إلا أن بعضهم يقف دقائق عديدة بين إقدام وإحجام على النزول فيه، يضع أقدامه ويجري حديثا بالأوزبكية مع صاحبه، برودة الماء كانت عائقا أمامه، وفجأة يدفعه أحدهم ليغوص ثم يخرج راسه شاعرا بنشوة النصر، اكتفينا بتمديد أقدامنا، رغم أن حقائبنا معنا إلا ماء بتلك البرودة جعلنا نخشى نزلات البرد والزكام.
وضعوا سلالا حديدية في النهر، وكل سلة بها مشروبات وضعت لتبرد بماء النهر.
مقابل لنا كبار السن، حفص كعادته يمتلك الجرأة فبدأ الحديث معهم، والسؤال المستمر، باكستان؟. وبنفس لكنتهم عربستان، لا توجد لغة تواصل إلا جوجل يترجم فيقرأون فيكتبون فنقرأ، عرض زواج أوزبكي عليه، إلا أنه احرنجم، لحق أبو عزان به بينما أنا تمددت لأملأ رئتي بالهواء النقي، رجعوا يحكون تجربتهم، اقترحت عليهم تقديم علبة حلوى عمانية لهم، تحدث أحدهم عن الحلوى تشير حركات اصبعيه الإبهام والسبابة بأنها مطاطية أو لزجة، لكن قالوا جيدة.
استمرينا في الاسترخاء وشرب الشاي الأوزبكي حتى الساعة الخامسة، رجعنا عائدين إلى طشقند والهدف محطة القطار لنحجز مقاعد إلى مدينة أخرى.