د. معمر بن علي التوبي
أكاديمي وباحث عُماني
أكن احترامًا عميقًا للفلسفة والعلم وأهلها، وأرى نفسي تتوق بين حين وأخرى إلى تتبع سير عظماء الفلسفة والعلوم، ومعرفة مسارهم في تاريخ الإنسان والحضارة، إلا أنني لم أفقد بوصلتي الإيمانية التي تمسكت بها، ليس لكوني ولدت مسلمًا ولكن لأفقٍ فلسفي عميق أراه في داخلي من خلال مرحلة تساؤلية معقدة قادتني -وما تزال- إلى بلوغ مرحلة من اليقين المفعم بالوضوح. الفلسفة التي طالما أراها ركيزة الانبعاث الفكري والعلمي، وهي -بكل تأكيد- عملية فكرية (عقلية) يتميز بها الإنسان العاقل دون غيره من المخلوقات، ولا يمكن لهذه العملية أن ترى لها شرارة دون المرور بمنطقة الشك الذي يبرز ويتطور نتيجة الأسئلة الوجودية الضرورية. حاجتي لفهم الوجود وبلوغ معنى كل شيء وغايته هي رحلة فلسفية لا تستقيم دون التحرر التام من التبعية الفكرية التي تتعلق بقوانين ألِفهَا بشر آخرون واختاروها لك عنوة دون استئذانك، هنا أنت مجرد مقلد لا تملك قدرة على معرفة كينونة ما حولك، ولكن تتبع القطيع (العقل الجمعي) طمعًا في النجاة أو على الأقل حبًا ورغبة في البقاء ضمن الوجود البشري الذي تحتمي به لتعيش الأمان المعرفي (المؤقت) بينما تتصارع في داخلك الأسئلة العميقة؛ فعندما نرى شكوك نيكولاس كوبرنيكوس في المنهج الأرسطي؛ نجد بعدها تفسيرًا أكثر منطقًا ووضوحًا للحركة الكونية، وهذا ما قاد آخرين -عبر التاريخ- أمثال جاليليو جاليلي وجوهانز كبلر ونيوتن وإرنست ماخ وأينشتاين في مواصلة هذا الإعمال العقلي الذي لولاه لما بلغت العلوم هذه المرحلة المتقدمة، ولما خرجت إلينا هذه النظريات العلمية التي ترفض الفلسفة أن تمنحها الحتمية المطلقة لتستمر مسيرة الشك المعرفي محاولة لبلوغ مرحلة يقينية مطلقة، وهذا ما تقرّ الفلسفة باستحالته؛ بسبب قانون نسبية الأشياء والأفكار في عالم المادة.
بدأت العلوم -بتنوعها الشاسع- من خلال الأسئلة الفلسفية العقلانية (وربما اللاعقلانية)، وانطلقت في مراحل التطور الملازمة للتدافع والشك الفلسفي الذي يسعف هذه العلوم لمقاومة كل أسباب فشلها؛ لنجد أنَّ العلم والفلسفة مرتبطان ارتباطًا وثيقًا ولا يمكن أن يفترقا عن بعضهما البعض؛ فالفلسفة شرارة كل نظرية علمية، ولابد من تسلسلٍ بديهي لهذه العملية؛ فالسؤال الفلسفي يتبعه أسئلة أخرى، ثم تجارب عقلية وعلمية قد تتخطى حدود زمنها المعقول لتصل يومًا إلى مرحلة الفرضية التي قد يُكتب لها -وقد لا يُكتب- النجاة والانتقال إلى مرحلة الحتمية (النسبية) وهي مرحلة النظرية، ولا غرابة أن نقول أن هذه العملية قد تحتاج إلى أجيال من الفلاسفة والعلماء المؤمنين بهذه الفكرة. نرى حينها أسبقية الفلسفة على العلوم، والتجربة تثبت أنه لا تنبثق فكرة علمية دون مرحلة فلسفية قد تكون مدتها الزمنية طويلة، وهذا ما يمكن ملاحظته بواسطة تتبع نشأة العلوم وتطورها بما في ذلك النظريات العلمية الكبيرة مثل قوانين الحركة والنظرية النسبية وغيرها من النظريات.
الهدف الأسمى الذي تُبنى عليه كل ركيزة فلسفية وعلمية مبدأه “لماذا”، وهذا المبدأ يقود إلى محاولة فهم أصغر جزئيات المسألة واكتشافها من خلال طرح الأسئلة العميقة والمعقدة، والذي يعرّفه البعض بمنهج السببية، وهو تسلسل من الوعي المعرفي (الشكي) الذي من الممكن أن يوصل -في نهاية المطاف- إلى ما أطلقت عليه “البوصلة الإيمانية”. مهما بلغت العلوم من تفوق وتطور نرى انعكاسها في حياتنا المتقدمة؛ فإن السؤال الفلسفي الذي يبدأ ب”لماذا” يظل ملازمًا، ولا يمكن أن يغيب من عالم مادي نسبي -يقر فيه قانون المنطق والبديهة والتسلسل السببي- أنه لا وجود للصدفة والتصميم الذاتي، ولا للعشوائية بل للنظام الدقيق الذي يُدرك من خلال العمق المعرفي للقوانين العلمية، وهذا ما يقودنا إلى البحث عن غاية الوجود وهدفه في ظل وجود مادي مؤقت ومحدود محكوم بقانون الفناء واستحالة البقاء الأزلي بما في ذلك الكون الفسيح. البوصلة الإيمانية هي مرحلة حتمية لدى البعض وخصوصًا بعد مرحلة طويلة من الممارسة الفلسفية المرتبطة بالقضايا العلمية، وبلوغها يتطلب درجة عالية من المعرفة بما فيها المعرفة الذاتية والشاملة والتخلص من عقدة الكمال المادي والإنساني الذي يرفضه العقل من خلال أبسط بديهات وقوانين العلم، وربما هذا ما يمكن أن نقول عنه أنه الخطأ الذي دفع ببعض الفلاسفة إلى مبدأ العبثية والفوضى الوجودية المبهمة التي تتضح فيها بعض جزئيات العبقرية الفلسفية؛ إلا أنها لم تستطع أن تتجاوز المرحلة المادية النسبية.
من تخلص من عقدة التبعية العمياء، وتحرر من العبودية المعرفية التقليدية التي ترفض السؤال والشك المنهجي، وبدأ مرحلة من البحث المتجرد من جميع سلطات النفس والذات العليا؛ سينتقل إلى مرحلة من الوعي المعرفي الذي يؤسس في داخله شعور المعنى والغائية من وراء كل شيء؛ ليجد أنه ملتصق ببوصلة إيمانية تقوده إلى الاستقرار المعرفي والفكري. هذه البوصلة التي ستكون بمثابة النور الذي سيُبصر بها ويجيب من خلالها عن كل مبهم، والتي لا يمكن أن يجدها من خلال التلقين المعرفي القسري ولكن من خلال رحلة معرفية تتميز -أغلبها- بالفردانية الحرة التي يمكن للبعض أن يفهم أهم أجزائها من خلال قول أبي حامد الغزالي “الشك أول مراتب اليقين”.