جمال النوفلي
هنا في الصباح الباكر جدا أجلس في مقهى صغير بجوار حديقة ريام، أمامي بحر عمان العظيم هادئا ساكنا بأمواجه الناعسة..
أستلطف الجلوس في هذا المقهى صيفا لأن هذه الجبال التي ترونها في الصورة تحميني وتحمي المنطقة من أشعة الشمس الحارقة، يشاركني الجلوس عدد كبير من الغربان المتسولة.. ، وقطة رمادية مشردة تحك ظهرها على ساق رجل كان يجلس على طاولة أمامي مع صديق له، كانا يلبسان قميصين خضراوين مكتوبا عليهما بلدية مسقط. حزرت من سحنتهما الوعرة أنهما عاملا خدمة في البلدية.. لوهلة انتابني شعور عابر غريب بالحسد تجاه موظفي بلدية مسقط لما يحظون به من امتيازات لا يحظى بها كثير من الناس..
وضِعَ على طاولتي صحن فيه ثماني حبات من اللولاه، ووعاء نحاسي صغير فيه الدنجو.. ، جاءت سيارة شرطة وانطلق إليها أحد عمال المقهى مسرعا.. بدا الشرطي غاضبا أو ناصحا للعامل أثناء حديثه له من نافذة السيارة هل يطلب الطعام أم يحقق معه؟!! … ، بدأت أتحسس في جيبي عن كمامة حتى لا يخالفني الشرطي الغاضب..، عاملا البلدية أيضا لبسا كمامتيهما على عجل.
فكرت أنني أتناول الطعام الان، ومن يتناول الطعام كيف له أن يلبس الكمامة.. هكذا سأجيب الشرطي اذا أراد تسجيل مخالفة ضدي.
ذهبت سيارة الشرطة وارتاح الجميع حتى الغربان ارتاحت واستأنفت نعيقها.. ، قال لي رجل كان يقف خلفي ويراقبني وأنا أستمتع بصحبة الغربان حول طاولتي وأصورها بكاميرة هاتفي هذا ، ” الطائر هذا يسموه الغراب، هذا أقدم طائر، مذكور في القرآن” لم أعرف بماذا أجيبه..، ابتسمت في هدوء دون أن ألتفت إليه، بدا لي أنه أكثر معرفة وقربا لهذه الغربان مني، رمى لها بعض الخبز فتطايرت نحوه جميعها تاركة صحبتي، وجاءت غربان أخرى من بعيد دون جدوى لتشارك الفتات، أردف قائلا لي: غربان مسقط أليفة.
ابتسمت موافقا على ظاهر كلامه، وغير موافق على خفي كلامه الموحي بأنني شاب غر من مسقط لا يعرف الغربان.
ثم زاد: معنا في البلاد الغربان حذرة تطير من بعيد (تطير يعني تهرب).
قلت : نعم صحيح وهذا ما يعجبني في هذا الغربان أنها ليست مثل غرباننا في الباطنة.
نظر إليّ الرجل متعجبا ثم ألقى كوب شاي الكرك في سلة المهملات وذهب إلى سيارته البيك آب التابعة لإحدى شركات المقاولة.
وعادت الغربان حولي منتظرة أن أشاركها طعامي.. ، كان الطعام لذيذا، فإذا غمست اللولاه في وعاء الدنجو الصغير حتى يتشبع من مائه المطعم بالبهارات والليمون ثم أحشوه بحبات من الدنجو الرطب وألقيه في فمي الجائع، فإني في تلك اللحظة أشعر بمتعة عميقة وبلذة لا توصف، متعة يستحيل أن أشاركها أحدا كائنا من كان، فكيف بهذه الغربان المتسولة، لا يمكن طبعا.
فكرت أنني سوف أترك لها ما يتبقى من الطعام بعد أن أشبع، وظلت هي تتقافز حولي تترقب اللحظة التي سأرمي لها شيئا، بعضها كان ينظر إلي بنظرات عدوانية غير مبررة.. ، مرت ربع ساعة وما زالت القطة تموء وتستلطف ساق موظف البلدية..، وهو يتحدث مع صاحبه بصوت خافت لا أسمعه..، تجرأ غراب وقفز بخفة فوق طاولتي، لم يفزعني ولم أطرده، ظل محملقا في وجهي بعينه اليسرى وأنا أتناول الدنجو.. ثم نزل.
قال لي أحد الرجلين وكان يلبس كمه مع ملابس البلدية تمسكا بهويته العمانية وحماية لرأسه من الشمس، قال لي مبتسما : “قوله ما احسن تجي تاكل معي بعد “
أنا: هههههه صدقت.
وانتهى الحديث بيننا، مع رغبة منه في إكماله.. ، ورغبة مني في تجاهله والاستمتاع بالصباح والمناظر الخلابة لأشجار حديقة ريام العملاقة ولون البحر العاكس لضوء الشمس وصوت العصافير ونعيق الغربان المتقطع واق…… ، واق………… .. ، واق…. ،.. واق.. .
يا لهذا الهدوء والطمأنينة، يعجبني شكل سيارتي الرياضية البي ام دبليو ، وأشعر بغبطة عندما ألاحظ شابا هنديا يحمل أوراقا دراسية يقترب منها.. يتأملها.. ربما يحلم بها.. .
فجأة يصرخ أحد الرجلين وتهرب القطة من تحت الطاولة…
“عضتني… ، السنورة عضتني” هكذا صرخ الرجل ثم يتلمس موضع العضة في ساقه فيجده طبيعيا لم يظهر فيه أي علامة. فيضحك وهو يقول لي “عضتني لأني توقفت عن إعطائها الأكل، لما كنت أعطيها كانت تتحسسني” أعادها ثلاث مرات مرة لعمال المقهى ومرة لصديقه ومرة لي .. وفي الأخيرة ضحك
وضحكنا.