بدر بن سالم العبري
رأينا في الحلقة السّابقة أننا وصلنا صالون جابري الثّقافي مبكرا، وسجلّنا جلسة حواريّة مع الشّيخ الدّكتور صلاح الجودر، وأثناء التّسجل بدأ النّاس بالحضور، وقد امتلأ المجلس رجالا ونساء، وممّن حضر وتحادثت معهم الدّكتور عبد العزيز الصّويلح وهو من الرّموز المتخصصة في التّأريخ عموما، وتأريخ البحرين خصوصا، والباحث لؤي الشّريف وهو متخصص في اللّغات القديمة، والشّيخ محمّد الزّهيري وهو من مشائخ الإماميّة في البحرين، والدّكتور السّعودي عبد اللّطيف الخاجة، وقد أتى من الرّياض لحضور الفعاليّة، والأستاذ أبو محمود عطيّة الله روحاني، وقد تعرّفت على ابنه محمود في شيكاغو بالولايات المتحدّة الأمريكيّة 2019م، والأصل نسافر معا صيف 2020م لزيارة أحد الولايات الّتي يقطنها الهنود الحمر في أمريكا، ورغبة منّا للتّسجيل عن ديانتهم، وكان ذلك بطلب من أحد الدّكاترة العراقيين اللّذين هاجروا إلى هذه الولاية منذ نهايات ستينيات القرن العشرين، وتطبع بثقافتهم حتى في اللّباس، ولكن جائحة كورونا حالت دون ذلك، ولعل الزّمن يتيح لنا ذلك مستقبلا.
في الابتداء رحبت مديرة الجلسة الإعلاميّة البحرينيّة نسرين معروف بالحضور، ونسرين لها حضور كبير في الإذاعة البحرينيّة بشكل خاص، كما شكرت صاحب المجلس أبا أيمن عناية جابري، وعرّف بالشّيخ صلاح الجودر، كما كانت لها مقدّمة بسيطة حول التّعايش في البحرين، وحول عنوان المحاضرة: فضاءات التّعايش السّلمي في مملكة البحرين، قائلة: نشأنا منذ الطّفولة، ومن المدرسة إلى الجامعة، ولا أحد يسأل الثّاني: ما مذهبك وأصلك؟ فقط ننتمي إلى هذه الأرض.
ثمّ كانت المحاضرة وفيها تحدّث الجودر أنّ الحديث عن التّعايش يبدأ من الحديث عن التّسامح، والتّسامح من السّماحة، وفي الحديث: سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى، ومن مرتكزات التّسامح: صفاء القلب وعدم التّوتر، حيث يجعل الشّخص يحبّ للآخر ما يحبّ لنفسه، ومن مرتكزاته أيضا العفو والصّفح عن الاخطاء أيّا كانت، مع قبول الآخر والجلوس معه، والسّماع منه لا من غيره، وهذا ما نجده في البحرين، ففيها الكثير من المجالس الحواريّة، ففي المحرق وحدها مائة وخمسون مجلسا حواريّا، يتلاقون ويتحاورون فيها، فالجلوس مع النّاس عن قرب يعطيك تحليلا واقعيّا عكس التّغريدات في وسائل التّواصل الّتي لا تعرف من أين يغرّد صاحبها، فقد حوّل العديد وسائل التّواصل الاجتماعي إلى وسائل التّنافر الاجتماعي.
ومن خصوصيات البحرين في التّسامح: أولا: البعد التّأريخي؛ فعمر البحرين يصل إلى خمسة آلاف سنة، من دلمون وآوال وتايلوس إلى الحضارة الإسلاميّة، ثانيا: البعد الجغرافي؛ فالبحرين في وسط الخليج، حيث أصبح لها السّبق في العديد من الأمور لموقعها الجغرافي، فالتّعليم النّظامي مثلا بدأ فيها، وأول مجالس بلديّة في البحرين تعود إلى 1919م، وكذلك المحاكم الشّرعيّة بمنهجها الحديث في البحرين تعود إلى 1928م، وبنيت المحكمة 1939م، ثالثا: البعد الثّقافي؛ حيث استقبلت البحرين جميع الثّقافات، فالمدرسة الفرنسيّة بثقافتها فتحت مبكرا في منطقة البسيتين، وممّا يدل على ذلك رسالة الرّسول – صّلى الله عليه وسلّم – لأهل البحرين، وتعامل البحرين معها، فدخلوا الإسلام من غير قتال، وكانوا أسرع من دفع حق المال للخلافة في بدايتها، ومدينة الزّبارة في البحرين من أوائل المدن الّتي استقبلت العلماء والشّعراء والمثقفين.
والتّعايش قديم في البحرين، مثلا الهندوس لهم معبد من 1819م، ويشاركهم الآن المجتمع في أعيادهم ومناسباتهم كما في عيد الأنوار، وسمح للكنيسة الإنجيليّة أن يكون لها مكان منذ 1905م، وفي السّنوات الأخيرة يشاركهم الجميع في أعيادهم ومناسباتهم، وللكنيسة الإنجيليّة نشاط كبير في تعزيز التّعايش، ووقفت موقفا مشرّفا في قضيّة حرق القرآن، وساهمت في وأد الفتنة، وكان ميثاقها في حرمة التّعرض للأديان والكتب السّماويّة والرّموز الدّينيّة والمقدّسات المكانيّة.
ولليهود كنيس من 1930م، ولهم عائلات بحرينيّة، واليهودي في البحرين يمارس طقوسه بحريّة، ولهم مكانتهم، ويعملون بالدّولة كغيرهم، لكن هناك فرق بين اليهوديّة والصّهيونيّة، فأرض فلسطين لأصحابها، والقدس عاصمة فلسطين الأبديّة.
وللبهائيين مكان للعبادة، ونشاركهم دائما في مناسباتهم الشّهريّة، كما شاركنا معهم لمرور مائتين عاما على مولد بهاء الله [ت 1892م]، وللبهرة أيضا لهم مكان للعبادة.
والنّاس من حيث التّعايش ثلاث فئات: فئة تؤمن بالتّعايش في أيّ مكان، فهؤلاء التّعايش أصبح لهم مبدأ لا يتنازلون عنه، وفئة ضدّ التّعايش، تمارس الحق المطلق المحصور معها، مع إقصاء المختلف، والعنف معه، وفئة مصالحيّة ترى أين السّفينة اليوم، فإن كانت مع التّعايش كانوا معها، وإن كانت الغلبة للتّطرف ساندوه.
ثمّ لرجال الدّين مسؤوليّة كبيرة في نشر التّعايش والتّسامح لا يقتصر عند الخطب والمحاضرات، بل لابدّ أن يتوّسع إلى المشاركة الاجتماعيّة، فالتّعايش يتطلب عدم الإيمان بالحقيقة المحصورة لديك، ولا يعني تذويب النّاس في طائفة أو منهج معين.
وعندنا في البحرين لا يوجد شيء اسمه أكثرية وأقليّة، الكلّ مواطنون في مجتمع واحد، لهذا الأمن يعزّز التّعايش مسبقا، لا عندما يحدث الخلل يبدأ في التّدخل والعلاج، لهذا كانت مساحات وفضاءات التّعايش في البحرين تنطلق ابتداء من إيمان الملك نفسه بالتّعايش السّلمي، وحضوره للمناسبات الاجتماعيّة بين الجميع، وتشجيعه على عقد المؤتمرات والنّدوات، منها: المؤتمر الإسلامي المسيحي 2002م، ومنتدى حوار الحضارات 2008م، وحوار الحضارات والثّقافات 2014م، بجانب مركز الشّيخ عيسى الثّقافي حيث فتح المجال لجميع الأديان في تقديم محاضراتهم، ومركز اكتشاف الإسلام للتّعريف بالإسلام ومنهج التّعايش فيه من خلال نهج المجتمع الإسلامي في البحرين، وفي مركز الفاتح يتعرّف غير المسلم على الإسلام من خلال دخوله المسجد، ومأتم العريض في المنامة يجتمع فيه العشرات من أصحاب الأديان ويتحاورون.
وقد قمنا بتسجيل المحاضرة في قناة أنس اليوتيوبيّة، ونشرت في 10 أبريل، وبعد المحاضرة كانت المداخلات، وهي لم تنشر تلبية لطلب صاحب المجلس، وليكون شيء من الأريحيّة في النّقد، فكانت البداية مع أحد المتداخلين من البحرين حيث انتقد أنّ المحاضرة ركزت على الجانب الإيجابي، ولم تتطرق إلى الجانب السّلبي المؤثر على التّعايش، وهذه إذا لم تعالج سوف تكبر، وكان جواب الجودر أنّ الشّعوب الواعية هي الّتي تقدّم الحلول، ولا تقتصر عند السّلبيات، ولكن هل المجتمع واع أن يقوم بالمسؤوليّة، فإذا تركت ثقافتك سيأتي آخر لسبب التّجنيس مثلا، أو لعمل؛ وسيملأ هذا الفراغ، فنحن من تنازلنا عن ثقافتنا، ولولا ذلك لما حلّت ثقافة غريبة عنّا، مثلا كنّا سابقا نرى العرضة من الفنون الشّعبيّة أيام العيد، والسّؤال: لماذا اختفى؟
ثمّ كانت مداخلة الدّكتور السّعودي عبد اللّطيف الخاجة، قائلا لمّا مرت البحرين بأحداث 2011م اعتقد العديد من النّاس أنّ الحل في الجانب الأمني، والحقيقة أنّ الحل ليس أمنيا، وإنّما الحل في الإنسان البحريني من خلال حكمة العائلة الحاكمة، وخصوصيّة الإنسان البحريني، فكانت عشرات محطات التّشويش على البحرين، لكن لم يستطيعوا اختراق إيمان الإنسان البحريني في التّعايش والسّلم، والسّؤال هنا: لماذا التّركيز على التّعايش في البحرين وهذا موجود؟ وفي الإمارات عندهم احتفال هذا العام بعام التّسامح، مع تعيين وزارة خاصة للتّسامح وتعزيزه، وفي نظري التّسامح لا يفرض، ولكنّه روح تولد مع الإنسان، وأنا اختلف مع المحاضر في قضيّة التّواصل الاجتماعي، فلمّا قامت الثّورة الصّناعيّة كان العديد حينها متخوّفا، ولمّا نشاهد اليوم وسائل التّواصل الاجتماعي نجد الإيجاب أكثر من السّلب، ففي السّعودية تغيّرت ثلاث وزارات في أقل من خمسين يوما بسبب التّواصل الاجتماعي، وعموما أيّ حاجة جديدة نحتاج إلى وقت للتّعامل معها.
ثمّ كانت مداخلة الدّكتور عبد العزيز الصّويلح، قائلا أنتَ قلت نتحدّث بعيدا عن السّياسة والدّين، مع أنّ التّعايش موضوع سياسي، والواقع هو من يفرض التّعايش، ولا توجد لدينا مشكلة مع التّعايش السّلمي، فإذا قلنا البحرين نموذجا للعالم في التّعايش فلماذا نجعل هذه المؤسسات في البحرين، بل علينا أن نخرج، وبالنّسبة للثّقافات لأننا أدخلنا أناسا من جنسيات مختلفة، ونشروا في البلد، هؤلاء جاءوا من ثقافات مختلفة، والأصل وجود مؤسسات تضبط سلوكياتهم، في السّابق كانت المحرق مثلا مليئة بالعمانيين واليمنيين، لكن كانوا مختلطين معنا ومتعايشين، لكن من تجنّس الآن من ثقافات أخرى لا يختلطون مع المجتمع، ولا يتعايشون معه، حتى مجالسهم أصبحت خاصّة، وهنا عقّبت مديرة الجلسة على الصّويلح: علينا نحن أن نذهب إليهم، ونختلط بهم، ولا ننتظر الجهات الرّسميّة.
ثمّ عقّب متداخل آخر من البحرين قائلا: للبيئة تأثير على الإنسان البحريني، فالأرض البحرينيّة ساحليّة لينة، لهذا كان تأثيرها على الإنسان البحريني، عكس أرض نجد تتميز بالشّدة، فالتّعايش لن يتحقق إلا في حال توفر حاضنة اجتماعيّة له، وأمّا وسائل التّواصل الاجتماعي فلها تأثير كبير على التّعايش، ففي استراليا وجدوا في وسائل التّواصل انخفاض استخدام لفظتي التّعايش والتّعدد، فأقامت المؤسسات دورات للنّاس للتّعبير عن آرائهم بطريقة لا تؤثر على التّعايش، عكس عندنا التّعبير عن الرّأي يصاحبه إقصاء للآخر، والتّعايش ليس حقيبة حكوميّة، ولكنّه حاضنة اجتماعيّة يحتاج النّاس إلى تدريب وليس إلى قرارات علوّيّة، والطّيبة الّتي عندنا ونتميّز بها لا تعني مدحا كاملا، فقد تعني السّذاجة أيضا.
ثمّ كانت الكلمة الأخيرة للجودر قائلا: جهاد الخازن [معاصر] – الصّحفي اللّبناني من أصول فلسطينيّة – تحدّث عن الحرب الأهليّة في لبنان، إذ قتل فيها أكثر من مائة وعشرين ألفا، ومرّت السّنوات وبقي نفس الفكر، كالّذي يأخذ جثة من الثّلاجة ويبقى يلطم عليها، لهذا لمّا نتحدّث هنا في البحرين نستذكر هذه النّعمة من التّعايش حتى لا نفقدها كما حدث في لبنان، أو حتّى في العراق، الإمارات نعم يخصصون اسما لكل عام، ونحن كمؤسسات نعمل كمجتمع مدني لا كدول، لكن علينا أن نبادر من المجتمع، فالكوب الّذي لا يملأ بالماء يمتلئ بالهواء، وقد يكون ملوّثا بالتّطرف العنيف، ونحن جزء من المنطقة نتأثر بما حولنا تماما كغيرنا، وقد شاركت مؤتمرا في أمريكا حول تعزيز الأمن من خلال مؤسسات العمل المدني، وبعده بشهر في الرّياض في مؤتمر تعزيز الأمن من خلال المنبر الدّيني، والكل كان يريد معالجة القضايا النّاتجة من وسائل التّواصل الاجتماعي.
وكانت لي رغبة في التّعقيب لولا ضيق الوقت، ولأنني آثرت السّماع لأفهم الآخر وهو أولى، وكتبت ملحوظاتي حول المحاضرة حينها، من حيث علاقة التّعايش بالتّعارف، وظرفيّة قراءة المراحل، وحضور التّوجهات الأخرى من غير الأديان من خلال مبدأ الأنسنة، وغيرها.
وبعد المحاضرة كانت مرحلة العشاء والحديث الجانبي، وهنا تحدّثت مع عبد اللّطيف الخاجة من الرّياض، وقد أتى من منطقة تبعد ستمائة كيلو مترا، ويأتي شهريّا إلى مجلس جابري الثّقافي، وطلب بعض كتبي، وأرسلت له لمّا رجعت عمان عن طريق أحد الأصدقاء.
كذلك تحدّثت مع الدّكتور عبد العزيز الصّويلح، وقال هذه العمامة الّتي تلبسها لم أرها سابقا مع العمانيين في البحرين، وأخبرني عن الفراغ الّذي تركه العمانيون، فلم يشعروا بالفرق، وكانوا مختلطين مع المجتمع البحريني، وطلب منّي أن أحضر محاضرته يوم الخميس 11 أبريل أي بعد يوم في جمعيّة التّأريخ وآثار البحرين، وذلك لتدشين كتابه حضارة دلمون، وكانت لي رغبة في الحضور إلا لغرض آخر رأيته أولى كما سنرى في حينه.
كذلك كانت لي جلسة مع الباحث لؤي الشّريف، وأخبرني عن إعجابه بالمجتمع البحريني، والعيش فيه يساعد على البحث والمعرفة، فتسامرنا حول اللّغات القديمة، ومنها اللّغة العبريّة، لاهتمام لؤي بها، وعلاقتها باللّغات العربيّة والكنعانيّة والآراميّة والسّريانيّة مثلا، كما تحدّثنا عن التّعدد الدّيني في المملكة العربيّة السّعوديّة، واتّفقنا على تسجيل حلقة معه لولا أنّ ظروف الوقت لا تسمح لديه قبل 12 أبريل، ونحن موعد رجوعنا في هذا اليوم.
كذلك جلست جلسة شبه طويلة مع الأستاذة طاهرة جابري، وأغلب الحديث حول ما دار في المحاضرة، والأصل يكون بيننا جلسة حوارية، لولا أنّ الجدول ازدحم ولم نجد فراغا.
عموما تأخر الوقت، ونحن ما بعد الحادية عشر ليلا، فرجعت إلى النّزل بعد يوم مليء بالزّيارات والبرامج، لنستعدّ لزيارة العلّامة عبد الله الغريفي، وزيارة الكنيسة المشيخيّة في مجمع الأديان، وتسجيل حلقة مع القس هاني عزيز كما سنرى في الحلقة القادمة.