الكاتب: خالد محمد عبده
التصوف: ظاهرة دينية تتّسم بالعالمية، فلا تتقيّد بحدود الزمان والمكان، والأجناس واللغات والأديان، أو الدّوائر الحضارية، “فلا وطن لها ولا تاريخ ميلاد.” (1)
حدّثني شابٌ مصريٌّ أنه مهتم بالكتاب الذي كنت أقرأه في الحافلة، لأنه ميّال لهذا اللون من القراءات، وقد لفت نظره عنوان الكتاب الذي أطالعه (التصوف في عُمان)(2) ، ومضى يحدثني عن اهتمامه بالتعرّف على التصوف بشكل علمي، بعد أن سمع بعض أحاديث الشيخ الشعراوي وخواطره عن التصوف. أسعدني توجّهه نحو المعرفة التي من شأنها أن تخرج الإنسان من سجن الأحكام وتجعله يسائل ما ورثه من مفاهيم وأفكار.
على خلاف هذا شاب آخر يشتغل بالصحافة العربية جمعتنا به جلسة تحدث عن عدم جدوى الخطاب الصوفي كونه خطابًا مدعومًا من الحكومات الغربية، ولخّص لنا التصوف في الكرامات البالية التي تعارض العلم وتقف أمام الإبحار في عالم متسارع لا يؤمن إلا بالحقيقة العلمية، كان الشاب يعتمد على معلومات منشورة في وسائل الإعلام على شكل تقارير كتّابها مخاصمون للتصوف بصورة معلنة، وفي الوقت الذي حمل الشاب فيه على التصوف ثمّن جهود بعض المجتهدين المسلمين من أمثال شحرور وعدنان إبراهيم وغيرهما. تذكرتُ هذين المثالين وأمثلة أخرى وأنا أفكر في عنوان الكتاب الذي أمسكت به لأتلقى وجبة دسمة عن موضوعٍ الكتابة ُفيه قليلة ألا وهو موضوع التصوف العُماني.
لفظة التصوف في حدّ ذاتها غريبة في السلطنة، فالتزكية والإحسان كما يقول بعض الملتزمين دينيًا في سورية هي اللفظة البديلة لهذه اللفظة (التصوف) التي لا أصل لها في القرآن أو السنة المطهرة. فالمسلم من قديمًا يلتمس لكلِّ ما يمسّ تدينه أصلاً من الكتاب أو من السنة أو من فعل صحابة الرسول الكرام.
هذه المسألة كانت محل سؤال من بدر العبري الباحث المثابر في الكتابة والفاعل في الثقافة العمانية في حواره معي، أجبته ساعتها أنني أصرف النظر عن التماس شاهدٍ للفظة أو مفهوم في الكتاب أو السنة لأن هذه الأسئلة بالنسبة لي أسئلةٌ لا تفيد المسلم اليوم، وتعود به إلى مشاكل تاريخية لم يعد لها من كبير معنى أو فائدة.
فنحن اليوم نعترف بكل مجموعة دينية تقدّم نفسها من خلال أدبياتها، ونثبّت الوصف الذي ارتضته ونعترف بوجودها ووجود المنتسبين إليها، ونناقش أفكارها، نستفيد منها، ننقد بعضها، ننحّي بعضها جانبًا، وتبقى الفرقة أو المجموعة كيانًا له اعتباريته .. يتطوّر أو يتأخر.. يوصف بوصف واحد أو أوصاف عدة .. يؤكد الواقع في النهاية أن المؤيد والمخاصم يعترف بوجود علمٍ ومنهج ٍوطريقةٍ وشقٍّ لا يمكن الاستغناء عنه يُعنى بأمور الروحانية وفقه القلوب.
لذا كان التوفيق حليف الشيخ خميس العدوي في اختيار التصوف في عُمان عنوانًا للكتاب الذي جمع فيه مدارسة أجراها مع فضيلة الشيخ أحمد بن سعود السيابي. والشيخ السيابي هو فقيه ومؤرخ ومفكر عماني، له رؤى تجديدية في بعض القضايا الإسلامية، شغل العديد من الوظائف في سلطنة عمان، ويشغلُ الآن فيها منصب الأمين العام بمكتب الإفتاء بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وله عضوية في بعض المؤسسات الإسلامية، ومنها: مجمع الفقه الإسلامي بجدة، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر. تلقّى تعليمه في جامعة بيروت وفي دار العلوم بالقاهرة والزيتونة بتونس، وله مؤلفات كثيرة في موضوعات عدّة وتحقيقات وبحوث تجاوزت الخمسين عنوانًا، ومن هنا كان الحوار مع شخصية لها ثقلها العلمي.
اشتملت المُدارسة على موضوعات عدّة، نذكرُ منها: مفهوم التصوف، ومشروعية التصوف، والتصوف والزهد، وروحانية التصوف، والتصوف والمدارس الإسلامية، والتصوف عند الإباضية، والتصوف بين العقيدة والإحباط، ودخول التصوف إلى عُمان، والتصوف عند إباضية المغرب، والتصوف والخرافة، ومدرسة التصوف في عُمان، والانقلاب على التصوف.
حرص الشيخ خميس العدوي في مقدمة الكتاب على التأكيد على ضرورة دراسة التصوف في عُمان، فالدراسات في هذا الموضوع قليلة للغاية، وحاول أن يبيّن للقارئ أن هذه المدارسة في أصلها حوار أجراه مع الشيخ السيابي، كان يرجو أن يقدّم له بمقدمة مرجعية عن التصوف في هذه البقاع، لكن الظروف حالت إلاّ أن تُطبع المحاورة في مجلة الفلق دون التقديم الذي أراده، فخرج النصّ على الصورة التي كُتب بها أولاً عام 2010، مقيّدًا بتوضيحٍ نصَّ عليه العدويُّ على النحو التالي: (يحلو لي أن أبيّن بأنّه في بعض الأحيان تكون لديّ رؤية مخالفة للسيابي، ولكن آثرت عدم إبدائها لتصل فكرته إلى القراء كما أرادها، كما أنني أحيانًا أجرد من نفسي محاورًا منتصرًا لفكرة من أفكار التصوف، بيد أني في الحقيقة على خلافها، وما ذلك إلاّ لكي أثير مكامن الأفكار لدى أستاذنا السيابي، ولأفتح له أكثر من مدخل للمناقشة والطرح)(3) .
يجعلنا هذا النصّ أمام إعلان براءة من العدوي إزاء جميع ما ورد في هذا الكتاب من أفكار تؤيد التصوف أو تعارضه، فدور العدوي هو السؤال وإثارة المشكلات التي يتصدى لها السيابي بالمناقشة وتقديم الجواب.
أما دورنا نحن في هذه المراجعة مناقشة آراء الشيخ السيابي وعرضها على المراجع التي تُعنى بدراسة التصوف ومناقشة ما يثار حوله من إشكالات، ومن هنا سنتناول في هذه الحلقة وما يليها من حلقات بعض الأفكار التي يقدّمها السيابي لقارئه ونعرضها على تلك المراجع لنتعرف على مقاربة السيابي للتصوف الإسلامي.
أولاً: مفهوم التصوف
في حلقة دراسية بجدة – 23 – 26 اكتوبر 2008 تخبرنا الدكتورة سعاد الحكيم: أنّ كلّ كلام – في الماضي والحاضر– حول التصوف الإسلامي يبدأ بإشكالية الاسم والتساؤلات حوله: متى ظهر اسم “صوفي” وأين، وهل هو لفظٌ عربيٌّ أو دخيل، هل هو مشتقّ أو جامد، هل هو قديمٌ أو مُحْدَث؟ تساؤلات وإشكالات أجاب عليها علماءُ القرنين الرابع والخامس الهجريين، وكان بعضهم حازماً حاسماً يقدّم رأيه على أنّه نهائيٌّ ولا يقبل النَقْض، والبعض الآخر يعترف بأنه لا يمتلك اليقين ولكن رأيه هو الأكثر احتمالاً والأقرب للمعقول اللغوي والفكري.
ومن هنا اختلفت آراء الباحثين في التصوف الإسلامي؛ فيرى بعضهم –كما يقول عبد الوهاب عزّام-: إنه أَنَشَأَ في الجماعة الإسلامية نشوءًا مستقلٍّا، والبعض يرى أنه انتقل إلى الإسلام من الأمم الأخرى واتخذ لونًا إسلاميًّا.
وهنا يثار سؤال إن كان قد نشأ في الجماعة الإسلامية غير متأثر بمذاهب خارجة، فهل أنشأه التعليم الإسلامي، أم نشَّأته أحوال مختلفة كالتي نشَّأت التصوف أو ما يشبهه في الأمم الأخرى؟
وخلاصة ما يقول الباحثون في هذا : (4)
(1) إن التصوف كان رد فعل لفرض العقائد الإسلامية على الأمم الآرية، فكان في التصوف تخلّص من عقيدة التوحيد المطلق وتخلص من التكاليف المحدودة المحكمة التي كُلف بها الإسلام، والذين يرون هذا الرأي يختلفون في الأمة الآرية التي أثّرت في تصوف المسلمين، يقول بعضهم: إن التصوف في صورته التي انتهى إليها يشبه مذاهب هندية ولا سيما ودنتاسارا، وهذا التشابه يدل على أصل مشترك ينبغي أن يلتمس في الهند.
ويرى فريق آخر أن التصوف فارسي في نشأته، ويحتجون بأن كثيرًا من الصوفية الأولين عاشوا في بلاد الفرس أو كانوا من سلالة فارسية.
(2) ويرى باحثون آخرون أن التصوف من ناحيته الفلسفية أخذ من الأفلاطونية الحديثة أكثر من أي فلسفة أخرى، مع التسليم بأن في التصوف أمورًا نشأت في الجماعة الإسلامية كما نشأت في جماعات أخرى؛ استجابة لنزوع النفس الإنسانية إلى معرفة مبدئها ومنهاها، وتطلعها المستمر إلى الاتصال بخالقها.
يلتقي الشيخ السيابي مع الفريق الأول، فيرى أن هناك تعريفًا استشراقيًّا للتصوف (6) يتلخّص في أن كلمة (صوفي) مأخوذة من كلمة يونانية هي “سوفست”، أطلقها اليونانيون على زهّاد الهند وعبّادهم، وهم مجموعة من الزهاد الذين كان لديهم التأمل والخلوة والانعزال وممارسة عبادات معينة وفقاً لدياناتهم.
وإذ يرى السيابي ذلك فهو لا يكتفي بالقول بردّ اللفظة إلى أصول يونانية، بل يعدها لقبًا أيضًا قائلا: “هو لقب يوناني أطلقوه على أولئك الهنود الذين لاحظوا منهم ذلك السلوك، وأنا أميل إلى هذا الرأي، لأن هذه الأمور جاءت من خارج الدائرة الإسلامية، فهذه الممارسات كانت فعلاً موجودة عند غير المسلمين؛ أعني السلوك التعبدي والتأملي عند الهنود والمسيحيين، وعند الديانات السابقة […] فالذي أميل إليه هو التعريف اليوناني للتصوف […] والتعريف الاستشراقي”.
ناقش الأستاذ محمد مصطفى حلمي في كتابه الحياة الروحية في الإسلام نظرية المصدر الخارجي للتصوف الإسلامي، وتعرّض في مناقشته إلى المصدر الهندي، وخلص إلى أن التشابه وعقد المقارنة بين الأفكار الهندية والسلوك الصوفي في الإسلام وما يعتقده الصوفية من أفكار كوحدة الوجود وطرائق الذكر ووسائله، لا ينهض دليلاً على القول بمصدرية التصوف الهندية، ذلك أن المسلمين لم يعرفوا بشكل جيد عقائد الهند وأفكارهم إلا بعد أن كتب البيروني كتابه الشهير تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة .(5)
أما تأسيس المسلمين لعلم ذوقي فقد اعتمد آي الكتاب الحكيم وسنة المصطفى الكريم وسلوك أصحابه وبعد فترة من الزمن يمكن أن نقول إن تأثيرًا حدث باختلاط بعض المسلمين من الزهاد وأسفارهم إلى بلاد شتى، لكن أصول هذا العلم نبعت من الكتاب والسنة.
كذلك فإن ما يقوله الشيخ السيابي في تعريف التصوف: “هناك تعريف استشراقي للتصوف وهو أن كلمة صوفي مأخوذة من كلمة يونانية هي “سوفست”، أطلقها اليونانيون على زهّاد الهند وعبّادهم” (7) يمكن أن يجابه بما قالته الأستاذة سعاد الحكيم -في محاضرتها المشار إليها آنفًا-: ” يرى بعض المستشرقين أنّ لفظ صوفي هو ترجمة عربية للكلمة اليونانية “سوفيا” التي تعني الحكمة. وهذا الاحتمال الذي قدمه بعض المستشرقين مستبعدٌ، لأنّ السين اليونانية تُكتب في العربيّة باطّراد سيناً لا صاداً. وقد أراد القائلون بهذا الاشتقاق أن يُظهروا أنّ التصوف دخيلٌ على الإسلام ويرجع إلى أصولٍ يونانية”.
المراجع:
1-راجع عرفان عبد الحميد: في التصوف المقارن، ملاحظات منهجية، بحثٌ صدر في مجلة إسلامية المعرفة، السنة 9، ع36، ربيع 2004.
2-صدر الكتاب عن منشورات مجلة الفلق الإلكترونية، ومكتبة الغبيراء، سلطنة عمان 2016.
3-راجع التصوف في عُمان، ص 8.
4-راجع عبد الوهاب عزّام، التصوف وفريد الدين العطار، نشرة المحروسة، القاهرة 2017، ص 28.
5-راجع محمد مصطفى حلمي، الحياة الروحية في الإسلام، نشرة مكتبة الإسكندرية، ص ص 38-48 وقارن ما كتبه البيروني عن تصوف الهند ومقابلته بما لدى المسلمين في تحقيق ما للهند من مقولة، ص ص 18-26.
6-ذهب كثير من المستشرقين إلى تلمّس مصدرٍ للتصوف الإسلامي في الديانات الهندوسية والبوذية، ويعتمد هؤلاء في تأييد وجهة نظرهم على ما يُلاحظ من تشابهات بين بعض مظاهر التصوف النظرية والعملية في الإسلام وفي ديانات الهند، مثل: طرائق الزهد والعبادة والتفكر والذكر والمعرفة والفناء ووحدة الوجود. ومن بين المستشرقين الذين قالوا بذلك كريمر فهو يرى أن في التصوف عنصرين مختلفين: الأول مسيحي رهباني، والثاني هندي بوذي، وهو ظاهر في الحارث المحاسبي وذي النون وأبي يزيد البسطامي والجنيد، ويرجع كريمر إلى الأصل الهندي فكرة وحدة الوجود وفكرة المحاسبة والمراقبة. وقبل كريمر قارنَ وليام جونز بين مذهب وحدة الوجود في التصوف الإسلامي المتأخر وبين مذهب الفيدانتا على الخصوص كلمات وأشعار مولانا جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي. وكان شغوفًا بإبراز التشابهات بينها. لكن المستشرق أربري رفض وجهة نظر جونز قائلاً: إن افتراض جونز قد بناه على معرفته بالشعراء الصوفية من الفرس فحسب، ولم تتح له فرصة لدراسة النصوص الصوفية الأساسية الأولى باللغة العربية … وهذه النصوص هي التي يمكن أن تقدّم أساسًا موثوقًا لبناء معرفتنا بمصدر التصوف. راجع محمد عبد الله الشرقاوي المستشرقون ونشأة التصوف الإسلامي، نشرة دار البشير، القاهرة ص 27، 28 وقارن حسن الشافعي فصول في التصوف، نشرة دار الثقافة بمصر 1992، ص 60. على أننا ننقل هذا النصّ لنوضّح للقارئ أن الرأي الاستشراقي ليس واحدًا وهو محل نقض واعتراض من غير واحد من المستشرقين الدارسين للتصوف، وفي المسألة تفصيل واسع، تحسن مراجعته في المصادر التي أحلنا عليها
راجع التصوف في عمان، ص 11.