د. علي بن راشد المديلوي
يحتفل العالم كل عام بيوم التراث العالمي, وهو اليوم الذي يصادف 18 ابريل من كل عام. هذا اليوم الذي تمّ إقراره عام 1982م، باقتراح من المجلس الدولي للمعالم والمواقع الأثرية، وصادق عليه المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) سنة 1983م. وهو مناسبة لإطْلاع الجمهور الواسع على الغنى والتنوع اللذان يميّزان التراث العالمي والمواقع الأثرية في مختلف بقاع المعموره ، وإبراز الجهود الحثيثة المبذولة، في إطار اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972م، من أجل صيانة هذا التراث والمحافظة عليه من العبث والإهمال الذي قد يطاله.
وقد صنفت هذه الاتفاقية التراث البشري إلى نوعين:
– تراث ثقافي ويشمل الآثار والأعمال المعمارية والمجمعات العمرانية والمواقع الحضارية ذات القيمة الاستثنائية
– وتراث طبيعي ويشمل المواقع الطبيعية ذات القيمة العالمية.
وقد جاء توقيع هذه الاتفاقية؛ بسبب العبث بالمواقع الأثرية وتدميرها، وغياب التشريعات والأنظمة والسياسات العامة التي تلزم المؤسسات والأفراد بالحفاظ على المواقع التراثية والأثرية، وقصور سياسات وأساليب التخطيط العمراني، وأنظمة البناء والهدم والإزالة التي تتجاهل التراث العمراني، بل إن البعض منها يشكل مصدر تهديد لهذا التراث. وايضا نقص المعلومات الخاصة بمواقع وأبعاد وتفاصيل المناطق والمباني التراثية والأثرية، فضلاً عن نقص المعلومات التاريخية عن هذه المناطق، وغياب الخطط والآليات وبرامج التنفيذ الخاصة بإعادة إحياء التراث العمراني لدى الجهات المعنية التي ينتظر منها الحفاظ على هذا التراث. ولذلك جاءت هذه الاتفاقية لتبين كيفية التعامل مع هذه التعديات وعلى كافة المستويات. وذلك بهدف تعزيز الوعي بأهمية التراث الثقافي للبشرية، ومضاعفة جهودها اللازمة لحماية التراث والمحافظة عليه. وقد خلصت جميعها إلى ضرورة التدخل العاجل وإيجاد تعاقد بين القطاعات الحكومية والمنظمات الدولية والإقليمية، وهيئات المجتمع المدني، لوضع خارطة طريق تشاركية قُصد منها حماية التراث الثقافي والطبيعي في العالم اجمع.
إن التراث الانساني هو الشاهد على الإنسان وعلى إعماره للأرض، وهو أيضا الشاهد على إنجازه وتطوره، وهو الشاهد على تفاعل الحضارات الإنسانية وانفرادها بالمميزات التي تجعلها فريدة عن غيرها، وأن أي تدمير للتراث أو تشويهه يصب في النهاية في تشويه هذا الجهد الانساني الخالد الذي خلفه الاسلاف لهذه الامم البشرية، لذلك يجب الحفاظ على كل ما خلفه الإنسان لأنه هو التراث الإنساني الذي يجب المحافظة عليه ولأنه واجب وطني اولا.وواجب إنساني في المقام الثاني.
ففي السابق كانت الآثار المترتبة على التراث الإنساني هي السرقة والنهب والجهل بقيمة هذا الأثار، ولكن ما يؤرقنا اليوم ويقلقنا ويقض مضاجعنا هو أن الأمر وصل إلى حد التدمير الذي يمحو الأثر ويشوه المعالم الاثرية والعمرانية. وهذا ناتج عن تطور وسائل الصراع المستخدمة في الحروب أو نتيجة لأعمال القصف أو التفجيرات أو التكنولوجيا الحديثة وغيرها من الأساليب المرفوضة التي تشكل تهديدا مباشرا لهذا التراث..
لذلك فإن اليوم العالمي للتراث هو فرصة لحماية التراث الإنساني وفرصة لمراجعة مفهوم التراث الإنساني ومعرفة أهميته، لأن مفهومه مازال مشوشا، فهناك آثار لم تدخل إلى الآن قائمة التراث الإنساني على الرغم من أهميتها وتاريخها العريق ولذلك لم تحظى باهتمام كبير، حتى البيوت والمنازل هي أيضا تراث إنساني وأن تدميرها لتجديدها يعتبر تدمير لأثر إنساني.
والدليل على ذلك طمس وتدمير الطرز والاثار والتراث المعماري في سوريا والعراق واليمن نتيجة الحروب والنزاعات المستمرة في هذه البلدان وايضا لاننسى ما يتعرض له التراث الفلسطيني وآثاره العمرانية من تدمير وتشويه وسرقة من قبل دولة الاحتلال الاسرائيلي. وفي غيرها من الدول العربية التي تشهد حروب ونزاعات مستمرة، لذلك يجب أن يكون هناك قوانين وتشريعات لحماية الأنماط العمرانية التي تعتبر جزءا من الهوية الوطنية العربية الثقافية.
هذا بالإضافة إلى التراث الطبيعي بمعطياته الجغرافية والجيمورفولوجية والمناخية والبشرية والتي قد أدت إلى تنوع المعطى الحيوي من النبات والحيوان، وحتى هذا التراث أصبح مهددا نتيجة للتطور الذي يحيط بها ويؤدي إلى تغيير ملامح الطبيعة وهو ما يهدد الحيوانات والنباتات، لذلك فإن الحفاظ عليها الآن اصبح أمر ملح من خلال الأنظمة والقوانين والتشريعات والإجراءات كإنشاء المحميات الطبيعية وغيرها من الانظمة والقوانين والتي تحافظ على الغلاف الحيوي من تصرفات الإنسان تجاه الطبيعة.
فالتراث الانساني أصبح مهددا الآن أكثر من أي وقت مضى، وأصبح الآن تحت رحمة من لا يقدرون قيمته ولا يهتمون بتخليد تاريخه، مما يجعله عرضة للسرقة والنهب وحتى التخريب.
ولذلك ياتي يوم التراث من كل عام ليذكرنا بأهمية هذا التراث العظيم وذلك من خلال الاحتفال به بهدف حماية التراث الإنساني والتعريف بالمجهود القائم من خلاله، وتعزيز الوعي للجميع بأهمية التراث الثقافي للبشرية لحماية التراث والمحافظة عليه، وتعود أهمية هذا اليوم إلى تذكير كل دولة بما تنفرد به من تراث انساني سواء كان هذا التراث تراثا عمرانيا أو طبيعيا وتذكيرها بما يجب عليها من الحفاظ عليه والعناية به. وتعزيز الوعي بأهمية التراث الثقافي للبشرية جمعاء، ومضاعفة جهودها اللازمة لحماية التراث وصيانته والمحافظة عليه.
لقد درج المجلس الدولي للمعالم والمواقع الاثرية في كل عام وبمناسبة هذا اليوم، ان يقترح موضوعًا لتسليط الضوء عليه، وتأتي احتفالية هذ العام تحت عنوان” الماضي الغني: مستقبل متنوع” استجابةً للدعوات العالمية للحفاظ على التراث الحضاري والثقافي، ومن هذا المنطلق فإن هذا اليوم هو دعوة للجميع للمشاركة وإبراز العديد من جوانب التراث الحضاري والثقافي لمختلف دول العالم. وهو دعوة الى المكانة المهمة لهذا التاريخ الانساني لمختلف دول العالم. وهو تذكير سنوي لما لهذا التراث العالمي من مكانة وتقدير في حياة الشعوب المختلفة. وذلك إدراكاً منها لأهمية حماية الهوية الثقافية والتاريخية للشعوب في عالم يتغير بشكل متسارع.
ويأتي الاحتفاء بهذا التظاهرة الثقافية وللعام الثاني على التوالي في ظروف استثنائية جدا في ظل جائحة كورونا التي ألزمت أكثر من نصف سكان المعمورة على البقاء في منازلهم، وتسببت في غلق معظم المواقع الأثرية والمعالم التاريخية والمتاحف التي كانت من قبل مفتوحة أمام الزوار.
كما ياتي الاحتفال هذا العام في وقت مهم جداً أكثر من أي وقت مضى كتعبير عن وحدتنا العالمية في مواجهة الأزمة الصحية العالمية المستمرة، حيث أن هذا الموضوع يدعو جميع دول العالم ومواطنيها لاستكشاف فكرة المشاركة فيما يتعلق بالثقافات والتراث والمسؤوليات المشتركة.
وهي دعوة للجميع للبقاء في منازلهم حتى انكشاف هذه الازمة الصحية العالمية والاطلاع على مختلف المواد التعريفية والتثقيفية والتعليمية عن ثقافات وتراث دول العالم المختلفة عبر العالم الافتراضي المتاح للجميع وذلك قصد التعرف عليها واستشعار المسؤولية المشتركة للجميع تجاه الدور الذي تلعبه الثقافة والتراث في مواجهة الأزمات، وكذلك دور الفرد للحفاظ وضمان استدامة مختلف عناصرهما،
وفي ظل هذه الظروف الطارئة، فان دول العالم والمنظمات الدولية والإقليمية، مدعوة. وكذلك هي دعوة الى دولنا العربية بشكل خاص ومنظماتها الحكومية وغير الحكومية التي تعني بالتراث والمحافظة عليه. إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحدّ من الانعكاسات السلبية للجائحة على القطاع الثقافي بعامة ومجال التراث بشكل خاص، من خلال إعداد ونشر تقارير وطنية عن تأثيرات حالة الطوارئ الصحية على المواقع التراثية في كل بلد، وعلى الحث الى مزيد من الاهتمام بالتراث الثقافي المادي واللامادي لحمايته من التهميش والإهمال، ومواصلة جهودها، خلال هذه الأزمة وبعدها، في التعريف به وصيانته، وتسخير آليات العرض الافتراضي والذكاء الاصطناعي، لإبراز ما يتميز به من غنى وتنوع، وتوعية الجمهور الواسع بأهمية الحفاظ عليه. فلنستمد قوتنا في حماية رصيدنا الحضاري من عراقة تراثنا، ولْنتّحد من أجل مستقبل أفضل للإنسانية. ولنتضامن من أجل تجاوز هذه الأزمة الوبائية التي خيمت على العالم اجمع. وشلت قدرته وعطلت مراكزه الثقافية والحضارية. ولنولي تراثنا اهمية اكبر لتطويره وحفظه وصونه وحمايته. لانه المعين الذي تستقي منه اجيالنا القوة والقدرة التي تعينهم في مسيرة بناء وتنمية الاوطان.