محمد بن سعيد المعمري *
تُعد شهادة الشهود أو البينة إحدى وسائل الإثبات في المعاملات المدنية والتجارية، وقد أفرد لها المشرع العماني بابًا مستقلًا من قانون الإثبات في المعاملات المدنية والتجارية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 68/2008.
وفي هذا المقال ندور حول قرار المشرع والقضاء والفقه القانوني، وما ورد من مسائل متنوعة تحت هذا الباب.
مفهوم البيّنة
اختلفت الآراء في الفقه الإسلامي حول تعريف البيّنة، وهل هي حصرية في الدلالة على شهادة الشهود أم أن البينة وردت على مطلق الحجة والبرهان وليس فقط على شهادة الشهود؟.
وهذا الاختلاف جاء استنباطًا من أدلة يضيق المقام لذكرها، إلا أننا سنذكر القدر اللازم بما يخدم هذا المقال في أن المشرع العماني خرج من عهدة هذه الألفاظ بما يقطع الخلاف، حيث أطلق على عموم الحجة بالإثبات وليس البينة؛ ونص على أن القانون هو قانون الإثبات في المعاملات المدنية والتجارية، بخلاف بعض التشريعات ولها وجهًا في ذلك.
كما جعل المشرع من ضمن الأحكام العامة بهذا المرسوم السلطاني، أنه على المدعي إثبات الالتزام وعلى المدعى عليه إثبات التخلص منه، دون إيراد للفظ البينة بمفهومها الواسع والذي يوازي عموم الإثبات، وهذا أوفق في التشريع في حسن الصياغة التشريعية، وأيضًا خروجًا من المشاحة اللفظية، مع مراعاة أنه في حال قصد المشتغل بالقانون أو غير المتخصص بالبينة شهادة الشهود أو مطلق الإثبات فلا تثريب عليه؛ لموافقته أحد الأقوال المعتبرة في هذا الشأن، كما أنه ليست العبرة بالألفاظ والمباني وإنما العبرة بالمقاصد والمعاني.
إن المشرع العماني نظّم شهادة الشهود في الباب الثالث بالمواد (38 – 53) مع إيراد هذه الشهادة في مواد أخرى من القانون ذاته لضرورة تشريعية داخلة تحت تلك الأبواب.
وقد تصدرت المادة الأولى في هذا الباب -المادة 38- أن اشترط المشرع على الخصم الذي يطلب الإثبات بشهادة الشهود أن يبين للمحكمة الوقائع التي يريد إثباتها وأسماء الأشخاص الذي يطلب سماع شهادتهم ومحل إقامتهم سواء بالكتابة أو شفاهية في الجلسة.
ويظهر أن هدف المشرع من اشتراط بيان الوقائع التي يطلب الخصم إثباتها بشهادة الشهود هو فحص المحكمة لتلك الوقائع التي قد تكون غير متعلقة بالحق، أو قد تكون ذات علاقة بالدعوى إلا أنها غير منتجة فيها، أو أن المحكمة لديها من الاعتبارات ما يكفي للفصل في الدعوى حتى مع التسليم بصحة الواقعة المطلوب إثباتها، بل قد تكون تلك الوقائع المراد إثباتها غير جائز قبولها رأسًا لمخالفتها النظام العام والآداب.
وتجدر الإشارة إلى كون الواقعة متعلقة بالحق ومنتجة في الإثبات من المسائل الموضوعية التي لا تخضع لرقابة المحكمة العليا، وإنما المحكمة العليا تبسط رقابتها على الواقعة جائزة الإثبات قانونًا؛ باعتبارها مسألة قانونية صرفة.
شهادة الشهود
لا ريب أن شهادة الشهود تعد وسيلة إثبات، إلا أن المشرع لم يجعلها على إطلاقها؛ ذلك أن المشرع بالمادة (41) من القانون ذاته جعل قاعدة عامة للإثبات بهذا الطريق وفحواها: “أنه لا تجوز شهادة الشهود في إثبات التصرفات القانونية المدنية، سواء كانت تلك التصرفات من العقود الملزمة للجانبين كعقد البيع، أو العقود الملزمة لجانب واحد مثل الهبة دون عوض إذا كانت قيمتها تزيد على ألف ريال أو كانت غير محددة القيمة، سواء في إثبات وجود التصرف القانوني أو انقضائه ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك.
وبذلك استثنى المشرع من القاعدة أعلاه عدم سريانها على الوقائع المادية، وعدم سريانها أيضًا على التصرفات القانونية التجارية وذلك لطبيعتها الملازمة لها، حيث أن المعاملات التجارية يجوز إثباتها بشهادة الشهود حتى لو تجاوز قيمة التصرف القانوني فيها ألف ريال عماني مراعاة لحكمة المشرع فيما تقتضيه المعاملات التجارية من سهولة وسرعة وهو ما يتعارض مع شرط الكتابة.
كما أن المشرع أجاز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بالكتابة في أحوال وردت على سبيل الاستثناء عددتها المادة (43) من القانون نفسه؛ وذلك إذا ما وجد مبدأ ثبوت بالكتابة، والمقصود به: “كل كتابة تصدر من الخصم ويكون من شأنها أن تجعل وجود التصرف المدعى به قريب الاحتمال؛ مما يجوز تعضده بشهادة الشهود”، والحالة الثانية في حال وجود مانع مادي كالحريق؛ فهذا يجعل الظرف يُشكل عقبة حالت في توثيق التصرف، مع التنبه أن يكون هنا المانع ليس في العقود الشكلية؛ ذلك أن الكتابة بالنسبة لهذا النوع من العقود هو ركن فيها، وإنما الفهم ينصرف إلى تعذر الكتابة في التصرفات القانونية المدنية التي تكون فيها الكتابة شرط إثباتٍ لا شرط صحة.
كما أضاف المشرع إلى أن المانع الأدبي الذي يحول دون الحصول على دليل كتابي سبب موجب لقبول الإثبات بشهادة الشهود؛ وهنا يكون الظرف ليس لأسباب خارجية مادية حالت دون توثيق التصرف وإنما لأسباب مردها العلاقة الخاصة بين الطرفين كصلة القرابة أو العلاقة الزوجية.
ومن الحالات التي سطرها المشرع استثناءً من الأصل أيضًا، في حال فقد الدائن سنده الكتابي بسبب أجنبي لا يد له فيه، وهذا يشترط فيه سبق وجود الدليل الكتابي مستجمعًا كافة عناصره، وأن يكون هذا الفقدان مرده إلى سبب خارج عن إرادة الدائن ودون إهمال منه أو تقصير، والحالة الرابعة هي إذا رأت المحكمة لأسباب مقنعة أن هناك حاجة للإثبات بشهادة الشهود.
هذه الحالة الرابعة عبارة عن تخويل من المشرع للمحكمة لإعمال سلطتها التقديرية؛ لتكوين عقيدتها، إلا أنه يتعين على المحكمة أن تبين مسوغات خروجها عن قواعد الإثبات التي توجب الإثبات بالكتابة في هذه الحالة.
وهذه الحالات أوردها المشرع استجلاءً للحقيقة التي هي غاية كل نظام قضائي، ومن الضرورة بيان أنه إذا ما كان الإثبات بشهادة الشهود جائز من حيث الأصل أو أجازته المحكمة فإن للطرف الآخر الحق في التخلص من الالتزام بذات الطريق الذي أجازته المحكمة باعتبار التوازن المفترض بين الخصوم.
تحليف الشاهد
وتجد الإشارة إلى أن تحليف الشاهد اليمين مسألة محل اختلاف بين أهل العلم الشرعي؛ فمن العلماء من يرى أن الشاهد غير ملزم بحلف اليمين على ما سيشهد به؛ فليس شرطًا في قبول الشهادة حلف اليمين، وهذا أخذت به بعض التشريعات، ومن العلماء من يرى تحليف الشاهد؛ لما صار إليه الزمان من فساد الذمم؛ وهذا القول أخذ به المشرع العماني.
ولقد وضع المشرع العماني عدة شروط للإثبات بشهادة الشهود، ومن جملتها أن تكون الشهادة مع أداء اليمين؛ وهو أن يحلف الشاهد ويقول: “أقسم بالله العظيم”؛ تطبيقًا للمادة (44) من المرسوم ذاته، وأرى أن المشرع وفق في هذا توفيقًا كبيرًا؛ فقد اطلعنا على قضايا كانت فيها يمينٌ حاسمة؛ فنكل الخصم عن الحلف مع أنه كان مستعدا لأكل مال غيره في حال عدم مقارعته باليمين الحاسمة؛ فكانت اليمين الحاسمة بذلك القسم الذي يتصدر الحلف سببًا لردعه عما هو مقدم عليه -وهذا ثابت من خلال رفع دعواه بالمطالبة -؛ ويقال في الشهادة ما قيل في اليمين الحاسمة من حيث الاشتراك في الحلف قبل الإدلاء بالشهادة، وبذلك تكون الشهادة بحلف اليمين أدعى لقول الحق.
وبخصوص إذا ما أدى الشاهد اليمين بعد الإدلاء بالشهادة وليس قبلها، فالقول السليم أن أداء اليمين عقب الإدلاء بالشهادة جائز طالما أن ذلك قد تم في الجلسة ذاتها وقبل مغادرة الشاهد مجلس القضاء؛ لأن هذا الاستدراك يقوم مقام أداء اليمين قبل الإدلاء بالشهادة، ولا إشكال في هذا.
نصاب شهادة الشهود
من المعلوم أن نصاب الإثبات بشهادة الشهود يكون من خلال رجلين أو رجل وامرأتين؛ وهذا ليس فيه إنقاص من مكانة المرأة ؛ ذلك أن الشهادة هنا لخبرة الشاهد وليس جنسه؛ ذلك أن المرأة بشكل عام خبرتها العملية في المعاملات المالية قليلة بخلاف الرجل، كما لا يصح الاعتراض على هذا التسبيب من أن النساء لهن حراك في هذا العصر في المعاملات المالية؛ ذلك أن الأحكام العامة تناط بالأكثر في الأشياء وبالأصل فيها، والواقع العملي أن النساء مازلن لا يشهدن أسواق المبايعات إلا القليل منهن، عِلاوة على أن مسألة الشهادة تختلف بحسب الموضوع؛ فأحيانًا يجنب الشارع المرأة الشهادة رأسًا كالشهادة في واقعة الزنا تكريمًا لها، وبالمقابل هناك أحوال لا يجوز فيها شهادة الرجل أيضًا كالشهادة في إثبات الرضاعة وإنما يكون للنساء فقط، وهناك أحوال تتساوى شهادة المرأة مع شهادة الرجل تمامًا كاللعان، وكل هذا له مقاله في مقامه؛ ولذلك بطل القول القائل بإجحاف الشارع الحكيم أو القانون الوضعي للمرأة من هذا الجانب.
شهادة ثلاثة من النساء
ونختتم المقال بأن شهادة ثلاثة من النساء على تصرف قانوني مدني لا يصح قانونًا؛ لعدم اكتمال النصاب؛ فقد أرست المحكمة العليا في هذا الشأن مبدأ حديثًا جاء نصه: “…كما أن شهادتهن لم يكتمل بها نصاب الشهادة كونهن ثلاث نساء” (الطعن رقم 185/2017م، جلسة يوم الاثنين الموافق 22/1/2018م)، ويقال في شهادة الثلاثة من النساء ما يقال في شهادة الرجل الواحد؛ وفي هذا سطرت المحكمة العليا ما نصه: ” … الاعتماد في التقدير على رسالة شيخ المنطقة المعتمدة من سعادة الوالي أثره نقض الحكم علته، شهادة الرجل الواحد لا تثبت بها الحقوق”. (الطعن رقم 23/2010 الدائرة المدنية (ج)، جلسة يوم السبت الموافق 26/يونيو/2010م).
*مكتب محمد المعمري – محامون ومستشارون قانونيون
Cicrone7@gmail.com