مراد غريبي*
{يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(سورة الحجرات:١٣ )
يمكن النظر في هذه الآية من زاويتين، زاوية بنيوية شاملة في القرآن؛ بهدف استكشاف المقاصد الكلية والحكمة العامة المستفادة من هذه الآية، و زاوية وظيفية مركزية؛ بغرض الكشف عن مباحث هذه الآية وأبعادها، ومعرفة العلاقة بين هذه المباحث والأبعاد.
بشأن الزاوية الأولى، عند النظر الشمولي في هذه الآية يمكن القول إن المقاصد الكلية هي الكرامة و التقوى و الحكمة العامة المستفادة منها، هي تقرير قاعدة التعارف، وتأكيد أن التعارف هو الأصل في العلاقات بين الناس، الأصل الذي يؤسس لقواعد الحوار و التعايش و التسامح و التآخي و التعاون و ما هنالك من أسس البناء الاجتماعي الحضاري، فلا يمكن تصور العلاقات الاجتماعية و سبل تطويرها من دون التعارف أو بعيدا عنه والذي يزدهر ضمن مقاصد الكرامة الإنسانية و التقوى العملية المنفتحة على الله.
بينما الزاوية الوظيفية المركزية، يمكن الكشف عن المباحث والأبعاد الآتية:
أولا: جاءت هذه الآية وقررت العلاقة بين الإنسانية والتعارف، حين وجهت الخطاب إلى الناس «يا أيها الناس »، الأمر الذي يعني ضرورة التنبه إلى هذه العلاقة بين المشترك الإنساني ومقصد التعارف، وجعلها في دائرة التفكر و التدبر، وهي تفيد أن وعي الإنسانية كأصل مشترك يمثل عامل مؤثر لتحقق التعارف، وينبغي أن يكون داعيا إلى نهج التعارف، وحاميا له، ومحفزا لاستيعاب حقائق الكرامة و التقوى، التعارف الحقيقي و الصادق يقود إلى احترام حقوق الإنسان و التي تختزل ضمن كرامته بجل حقائقها و توطيد السلم و التعايش الأهليين، و العكس يغذي عناصر التصادم و التنازع والتصارع و العنف المتبادل، مما يطمس كرامة الإنسان و يتجاوز التقوى و يفسد الاستقرار و التعايش و السلم و ينسف تجليات العدالة.
كما تفيد هذه العلاقة كذلك، أن دائرة الإنسانية بالنسبة لأصحاب الإيمان مهمة جدا في إيصال التقوى الإيمانية عبر حقائق التكريم الإلهي و الكرامة الإسلامية التي تنهض بإنسانية الإنسان و ذلك من خلال سبيل التعارف، فالدعوة للإسلام لا تحقق مقاصدها عبر التعالي و إنما بمنهج التعارف السليم و المنفتح على آفاق المعارف و الثقافات و العلوم و الفنون و هذا كله، خطوطه العريضة متجذرة في الرؤية الحضارية للقرآن الكريم و السنة الشريفة .
ثانيا: الخطاب في الآية جاء بصيغة الجمع، فهو خطاب إلى الجماعة وليس إلى الفرد، بمعنى أنه خطاب متعلق بمفهوم الجماعة وذلك لوجهين: وجه يتعلق بعنوان التعارف، ووجه يتعلق بعنوان الجماعة.
ما يتعلق بعنوان التعارف: يتحدد في كون أن فعل التعارف حاجة مجتمعية وليس حاجة فردية فقط، وما يتعلق بعنوان الجماعة: يتحدد في كون أن المجتمعات هي المعنية والمسؤولة عن تحقيق التعارف، و كذلك غاية و مقصد التعارف بحاجة لجهد الفريق و لتكامل العقول و لا يمكنه أن يتحقق في إطار الجهود الشخصية و الجهوية الضيقة، لابد أن يرقى لمستوى الثقافة الإجتماعية و يكون صبغة الاجتماع الثقافي.
ثالثا: الخطاب في الآية جاء كذلك بصيغة فعل الأمر تحديدا، فهناك من جهة عامة أمر للناس و للمؤمنين خاصة بإلتزام نهج التعارف، وهو بمثابة إرشاد إنساني و تكليف إيماني جماعي استراتيجي على طول الزمن الإسلامي، وأن أمر التعارف ينبغي أن يأخذ صفة الفعل المستمر الذي لا ينحصر ولا يتحدد لا في زمان معين، ولا في دوائر محددة، وإنما هو فعل مستمر شامل و نهج استراتيجي مطلوب في جميع الأزمنة و المجتمعات، وتجاه الآخر ككل، الجواني و البراني، وسيظل فعلا مستمرا مطلوبا بلا توقف وبلا انتهاء في ظل وجود الإنسان و المجتمع المسلمين.
رابعا: اتفق المفسرون من جل المذاهب الإسلامية قديما وحديثا على أن جملة {إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم}، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بحسب المفسر الفقيه المالكي العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير و التنوير: أنها جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإنما أخّرت في النظم عن جملة “إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة.
و جاءت تنبيها إلى ان حقيقة الكرامة عند الله كشرط للتقوى.
خامسا: نهج التعارف، يتطلب معرفة حقائق الكرامة و آفاق التقوى، وهنا نبهت الآية الكريمة إلى مسألتي العلم و الخبرة و نسبتها لله توحي ان علم التعارف و خبرته لابد أن تطلب من العليم الخبير الباري عز وجل، مما يحيل إلى الزاوية الأولى البنيوية الشاملة التي تفتح الأفق الرحب أمامنا في صياغة ثقافة التعارف على ضوء محاور العلم و الخبرة في المدرسة القرآنية المحمدية.
هذا عن أفق من آفاق النظر في الخطاب القرآني المؤكد على أهمية نهج التعارف، لكن السؤال الجوهري و المركزي :هل لبى المؤمنون المخاطبون ضمنيا في الآية النداء ونهجوا سبيل التعارف كبديل ثالث عن الصدام و العزلة؟!
بالرجوع للتاريخ لا نكاد نقف سوى على ملاحم الصراع و التخوين و التسقيط و التشهير و التكفير و التطرف و الإقصاء كخيارات مأساوية الى جانب فتاوى الاعتزال الطائفي و شيطنة الاحتكاك بالآخر المخالف و المذهبي على وجه الخصوص، بل أحيانا الآخر الكتابي أقرب للذات الطائفية من المذهبي المسلم!! بين سياسة الإبادة و ثقافة التهميش والإقصاء، ضاعت فرص ثمينة عديدة لبناء الاجتماع الإسلامي الحضاري، سوى تلك التي سطعت بموجات التفاعل مع الحضارات الأخرى مما أثمر نهضة علمية و فنية و إنجازات حضارية رائدة بين بغداد و الاندلس و القيروان و الزيتونة و جاكرتا، ولعل أكثر الصور إشراقا للتعايش و التسامح و التعارف لا تكاد تعرف لدى إنساننا العربي والمسلم المعاصر، لأنه ببساطة ضحية الوصاية الطائفية التي لا يخدمها نهج التعارف، ففي تصحيح المعارف وفضح الأساطير و الافتراءات على ضوء النظر في القرآن الكريم و السنة الشريفة و التاريخ الإنساني الإسلامي ستزهر حقائق الكرامة و آفاق التقوى في الوعي الجمعي للمسلمين، و تنتفي اوهام التوجس و مبررات الكراهية و خدع التفرقة و التسقيط لتحل محلها شجاعة التعارف و آداب الحوار و مناهج البحث العلمي الحر و أخلاق التعايش و اللقاء و قيم التسامح و العفو و السلم و التعاون على البر و التقوى..
*كاتب من الجزائر
**الصورة من محرك البحث العالمي (جوجل)