أحمد بن سالم السيابي
طالعنا الدكتور الفاضل صالح الفهدي بمقال جميل في جريدة الرؤية بعنوان “صناعة القدوات السلبية”، وحقيقة نحن في حاجة ماسّة لتكثيف هذا النوع من التثقيف الاجتماعي، وربما يسمح لي دكتورنا العزيز في هذه الإضافة على ما تفضل به.
ربما أصاب الدكتور صالح في وصف هذه الفئة من الناس، إلا أن هذه الفئة موجودة في جميع المجتمعات بمختلف تكويناتها الاجتماعية والدينية والتاريخية والثقافية، وليست حصرا على مجتمعنا، لذلك فالمشكلة الحقيقية ليست في تلك الفئة التي وصفها بـ”الرعاع” على حد تعبيره، لأن هذه الفئة هي نتيجة تعاطينا نحن أولياء الأمور مع المتغيرات المجتمعية.
ليست مشكلتنا في هذا الجيل السطحي، بل مشكلتنا تبدأ من التربية الأسرية ومن التعليم، فنحن كأولياء أمور لا نربي أبنائنا بما يتناسب ومتغيرات المرحلة الحالية، بما فيها من تناقضات أخلاقية واجتماعية ودينية، ولم يستطع التعليم أن يصحح تلك المفاهيم لنا ولأبنائنا، لذلك فقد اشتركنا نحن أولياء الأمور والتعليم في هذه الجريمة المجتمعية التي نتج عنها مجتمع وجيل سطحي وفارغ ومسكين، إلا من كان محظوظا وتربى تحت يدي وليّ، له بعد نظر للمتناقضات المجتمعية وقرر قيادة أبنائه وأسرته إلى بر الأمان.
في تقديري الشخصي، أن الجريمة التي ارتكبناها نحن أولياء الأمور في حق أبنائنا هو أننا تركنا مهمة تعليمهم وتثقيفهم للمجتمع، والمتابع للمنحنيات التي يسير عليها الناس والمجتمع يجد أنهم يميلون إلى الهزلية السطحية والفراغ وتعطيل العقل عن التفكير، لذلك أصبحوا يتبعون المهازل والسخرية أينما كانت، ويتبعون صانعيها ومهرجيها المنحلين اجتماعيا -وأخلاقيا في أحيان كثيرة- مهما كانت خلفياتهم الأدبية والثقافية والفكرية.
بل على العكس، فكل ما اقترب هذا الهزل من الدونية اكتسب شعبية أكثر لأنه يقترب من سطحية الناس، فيكون حديث الساعة وحديث الأخلّاء في لقاءاتهم و”جروباتهم الواتسابية” وربما منازلهم، لأن هذا النوع من الحديث هو أكبر ما يمكن لمداركهم العقلية والأخلاقية والأدبية القيام به.
لقد تحدث الدكتور صالح عن فقدان مجتمعنا للقيم والمبادئ الراسخة، وأعتقد شخصيا أن المجتمع لم يفقد شيئا، لأن الفقد يكون للشيء الموجود ثم اختفى فجأة، ولأن المجتمع وُلد وتربى وعاش ولم يسمع قط عن كلمة “القيم” ولا يفهم معناها اللغوي أو معناها الأخلاقي أو أثرها في تقويم المجتمع لأنها غير موجودة في الأساس، فلا يمكن أن نتهم المجتمع بأنه فقدها.
إن سبب عدم وجود هذا المصطلح بكل ما يحمله من دور في تقويم المجتمع لدى الجيل الحالي هو أننا -أولياء الأمور- تركنا مهمة تربية أبنائنا للمجتمع بكل ما فيه من صلاح وطلاح، كما أننا لم نقف وقفة جادة أمام المتناقضات المجتمعية التي تهدد تربية وأخلاق ودين أبنائنا، كما تهدد عقولهم وتعرضها لخطر الفراغ العقلي، علاوة على أننا لم نغرس المفاهيم الاخلاقية التي ترتقي بها الشعوب والحضارات والمرتبطة بالقيم والرسوخ.
من جانب أخر، بما أن العاملين في سلك التعليم هم مثلنا ومتشابهون معنا في قضية الاعتماد على المجتمع في تربية أبنائه، فقد ساهم التعليم في زراعة وحصاد هذا الفراغ العقلي من خلال تغاضيه عن السلبيات المجتمعية، وصمته وسكوته على تلك التناقضات من خلال خلو المناهج الدراسية من مواد ودروس تذكر أبنائنا وتذكرنا معهم بمفاهيم الرسوخ الأخلاقي والثقافي والعلمي والحضاري وأهميتها في بناء مجتمع ناضج ونظيف من أدران التناقضات، وأن في مجتمعنا قدوات لها قدرها و مكانتها الاجتماعية لما لعبته وتلعبه في تنشئة المجتمع تنشئة صحيحة كما ينبغي لها، وربما هذا التوجه هو أحد الأسباب التي تجعل الشهادة العلمية والنجاح في نظر الجيل الحالي هي من أجل الشهادة وليس من أجل العلم الذي أصبح بدون قيمة أو أثر لدى أبنائنا.
الحضارات متغيرة ومتعاقبة على مر السنين، وتمر بمنعطفات وأمواج عالية ومنخفضة وهذا حال البشرية منذ قيام الساعة، وربما نحن الآن في مفترق طرح لولادة حضارة جديدة، وبما أنها حضارة تكتسب مفاهيمها من هذا المنطلق “الفارغ” فإنني أعتقد أنها حضارة سطحية وفارغة إلا -كما ذكرت سابقا- من استشرف ذلك الخطر وحاول حماية أسرته ويسير بها إلى الطريق الصحيح كما ينبغي لهم من خلال تعزيز مفاهيم القيم والرسوخ الأخلاقي والأدبي والديني والإنساني.
روى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ”.