أحمد بن سليمان الكندي
وجوه وضيئة يخالط بشاشتها نور الإيمان، وعمائم بيضاء تضفي على أصحابها سيماء الوقار وعلامات التقى والرشاد، ولحا كثة اشتعل فيها الشيب فكست أصحابها رداء الحنيفية السمحاء، وحجل القرب من الله . أشياخ أجلاء، قضاة وعلماء، كانو نور الله في أرضه، وأعلامه في سمائه، وشموسه بين كواكبه، تأنس لمجالستهم وتسمع لقولهم، وترى بياض قلوبهم، وتلامس صفاء سريرتهم، يشدك غزارة علمهم، وتعجب لعلو همتهم، فلا تزيدك مجالستهم والأنس بهم الا تزيكة للقلب وصونا للنفس وسموا في الأخلاق.
في سبلة الرجال حيث تكررت لنا زيارات كوكبة من العلماء والأشياخ الأطهار كانت سيماهم امتداداً للأئمة الخالدين، وجهابذة العلم السابقين، منهم تلقفنا ونحن نخدمهم الوحي الأول لتاريخ عمان العريق، وأول الإرهاصات عن عزة وكرامة ومجد هذا الوطن الغالي، سمعنا منهم عن إمامة الجلندى بن مسعود والوارث بن كعب والسلط بن مالك وناصر بن مرشد ومحمد بن عبدالله الخليلي، ولطالما تحدثوا عن الإمامة العمانية الأولى والثانية، وعن الملوك النباهنة، ودولة اليعاربة، وعن المكانة التي تبوأتها عمان في عهد الدولة البوسعيدية، منهم تعرفنا على عمانية الخليل بن أحمد والمهلب بن أبي صفرة وسيرة طالب الحق، وعلى مؤلفات أحمد بن النضر ودرويش بن جمعة المحروقي ومحمد بن إبراهيم الكندي وجميل بن خميس السعدي وعبدالله بن حميد السالمي، ومنم سمعنا أشعار الاستنهاض والحماسة لحسان عمان، ومدائح الحبسي ، واشعار المعولي والغشري .
سبلة الرجال حيث نشأنا، وحيث شربنا وتشربنا أخلاق الرجال وأرومات الفضائل وسجايا الاستقامة، وبلغنا أشدنا وقد وعينا كيف عاش أجدادنا افانين الحياة وكيف قاوموا ضروب الزمان وكيف تغلبوا على شظف العيش.
سبلة الرجال، هي دار ندوة في المفهوم السياسي حيث يستقبل فيها الاضياف وتناقش فيها الأمور العامة بين القبائل، وهي غرفة اجتماعات في العرف الاداري يلتقي فيها رجالات القرية بشكل يومي فتدورعليهم فناجين القهوة ويتسامرون حينا من الوقت مع عبقها العماني الخاص، وهي في المستوي الاجتماعي صالة مناسبات تعقد فيها الملكة، او ينتظم فيها مجلس العزاء،. وفي أحايين أخرى وعلى الصعيد الاقتصادي تتحول السبلة إلى صالة لعرض الأسلحة والمصوغات، وورشة عمل تسحل فيها مشاكيك العيد، وتسف سمة الرقاط ، وتخاط خصفة الشواء، ويؤلف حبل القلاد.
سبلة الرجال حيث الزيارة تأتي عفو الخاطر، فلا اتصالات، ولا مواعدة، وفي المقابل لا تكلف في الاستقبال ولا شطط في الضيافة، فصفاء القلوب أذهب حرج الكلفة، وأريحية الزيارة اعفتهم عن المواعدة، والتآخي في الله تسامى فوق شكليات اللقاء، فكان شعارهم الذي يرددونه كما جاء في الآية (( ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد)) .
سبلة الرجال،. حيث نشأنا، وحيث تعلمنا الكثير والكثير، تعلمنا آداب المجالسة والحوار، تعلمنا فنون الضيافة وعبارات المعازمة ومناشدة العلوم، تعلمنا قواعد اللباس العماني، فالعصا تلازم المصر وعيب أن نحملها مع الكمة، والبشت لا يجب إن يلبس معه الشال، والتكاسيف يجب أن تكون مستقيمة ومنتظمة من الصدر إلى نهاية الدشداشة عند لبس الخنجر.
في سبلة الرجال تعلمنا فن تغنيم القهوة على الضيوف، فالدلة تحمل باليد اليسرى والانحناء مطلوب لمناولة الضيف الفنجان، وتوجيه الفنجان وفق طلبات المعازمة يجب احترامه، فيما هز الفنجان له دلالته المعروفة .
في سبلة الرجال، وحيث الريف العماني له طعمه ومفرداته الخاصة تعلمنا من هو البيدار وما هو الثوج والقفير، وماذا يعني صوار الفلج، وكيف يحدد نص الليل وظل ثمان وأذان القروح ووقت الشارقة والغاربة، وعرفنا ان الفلج يحتاج إلى تشحيب، وأن النخلة لها نبات وحدار وشراطة، والمال يحتاج إلى خدمة وهياسة، كما عرفنا صردة الأرض وتبشيرة القيض وطناء النغال وجداد المبسلي.
في سبلة الرجال أخبرنا شيابنا عن عصر ما قبل النهضة وعن رحلاتهم إلى مطرح ومسقط التي كانت تأخذ منهم ثلاثة أيام، أخبرونا عن التغريز في رمال بركاء والاستراحة عند فلج الوطية وطلوعهم إلى عقبة ريام، أخبرونا عن سيارات البيدفورد التي كانوا يتزاحمون فيها، وعن بوابة مسقط التي كان يجب أن يدخلوا منها قبل المغرب، وعن تحديد المعرف الذي تنزل عنده في مسقط، وعن القنديل الذي يجب أن تحمله في يدك اذا خرجت في الليل، أخبرونا عن التفتيش الذي يجب أن تخضع له وعن العشور التي يجب أن تدفعها، وعن موعد عودتك الذي يجب أن يكون محددا سلفا.
في سبلة الرجال عرفنا السنوات العجاف التي مرت على عمان، أبان الحرب العالمية الثانية، تلك السنوات التي لم يكد يوجد ما يؤكل فيها إلا التمر، وعرفنا رحلاتهم إلى الحج، وكيف كان الحج يستغرق سنة كاملة من الموسم إلى الموسم، وكيف كان الحاج يودع بالبكاء والنحيب فلعله لا يعود، وكيف كان المحمل يأخذهم بحرا إلى البحرين ثم إلى الدمام ومنها إلى مكة المكرمة.
سبلة الرجال كانت مسرحا للحياة بكل تجلياتها، ومدرسة بكل تفاصيلها، فالمعلمين والطلبة جلوس فيها، والمنهاج هو تصاريف الحياة وتجارب الناس وسيرة الأولين وتاريخ عمان العظيم.