شؤون عمانية- مروه بنت سيف العبرية
توجه السلطنة بوصلتها نحو قطاع الطيران لمواكبة التطور الذي يشهده العالم في هذا المجال الحيوي، في وقت اكتملت فيه منظومة الطيران في عمان من خلال وجود مطار مسقط الدولي الذي يعد من أفضل 20 مطارا حول العالم.
ويوجد في السلطنة أيضا مطارات أخرى مثل مطار صلالة الدولي ومطار الدقم ومطار صحار، وأصبح “الطيران العماني” هو الناقل الوطني وذاع صيته عالميا وارتفع أسطوله وتعددت وجهاته للعديد من العواصم والمدن حول العالم.
ويولي “الطيران العماني” اهتماما كبيرا بقطاع التدريب ورفع مستوى كفاءة العاملين فيه، حتى وصل العماني إلى أعلى المسؤوليات القيادية واحتل الأماكن المرموقة.
قصة الطيار العماني ناصر بن سعيد بن مسلم الحبسي هي قصة ضمن العديد من قصص النجاح والإصرار والنضال، حيث كافح منذ نعومة أظفاره واستطاع أن يثبت جدارته وتفوقه على الكثيرين من أقرانه، ورسم حلمه وحوله إلى واقع ليكون طيارا مدنيا من طراز رفيع المستوى في القيادة.
وفي هذا الحوار سيحكي “الحبسي” لـ شؤون عمانية عن دخوله عالم الطيران ويكشف لنا الكثير من الجوانب في هذا المجال، وكذلك سيحكي تفاصيل مشهد حقيقي حدث معه في السماء، حين فقد التحكم في مقصورة القيادة، الأمر الذي أرعب المسافرين وطاقم الطائرة.
بداية حدثنا عن مهنة الطيران بشكل عام وكيف وصلت إلى حلمك؟
في البداية أرغب في شكر شؤون عمانية على هذا اللقاء الصحفي الطيب وأتمنى التوفيق لكم في ما تسعون لتحقيقه.
بالنسبة لمجال الطيران وبداياتي فيه فهي قصة طويلة بدأت منذ زمن بعيد، لا أرغب في القول بأنه كان حلمي الوحيد لكن التأثيرات المصاحبة جعلته يكون الهدف الذي أتمنى الوصول إليه.
القصة بدأت قبل دخولي إلى المدرسة، لم أكن أفقه الكثير عن المهن المختلفة لكني علمت بأن والدي كان يعمل في السلك العسكري وهذا جعلني اهتم بهذا الجانب وبدأت أتقمص الشخصيات العسكرية بين أصدقائي، وبعد دخولي إلى المدرسة تفتحت العوالم لدي وتعرفت على مهنة جديدة وهي مهنة التدريس ووظيفة المعلم.
لكن خلال هذه الأعوام كانت هذه المهن مجرد وظائف تعرفت عليها بمحض الصدفة لا غير، ولم ألقي لها بالا بشكل خاص، وكان التحول المحوري في تفكيري من خلال أخي الأكبر الذي كان يعمل “فني صيانة الطائرات”.
كنت شديد التعلق بأخي وكان يدعوني دائما للخروج معه في جولات مختلفة، كان حديثه منصبا في معظم الأحيان حول مجال عمله بين الطائرات، ومن هنا بدأت المعلومات تأتيني دون الحاجة للبحث عنها، وبدأت أتعمق أكثر في هذا المجال بشكل خاص أكثر من أي مجال مر علي في السابق، ومع تقدمي في العمر تزايدت الوسائل التي أستطيع من خلالها الحصول على معلومات أكثر وأعمق عن مجال الطيران وخضت نقاشات أكثر جدية مع أخي الذي كان يجيب على جميع استفساراتي.
كانت ميولي في البداية تدفعني نحو الالتحاق بالمجال العسكري، خاصة على الطائرات المقاتلة مع أن الطائرات العمودية قد أثارت اهتمامي بشكل كبير أيضا، لكن فكرة أن أكون طيارا مقاتلا كانت تطغى على مخيلتي
في المرحلة الثانوية وجدت وسيلة جديدة استطعت من خلالها الوصول إلى نوع آخر من المعلومات والتي كانت تأتيني عن طريق صديق لي كان يملك إمكانية البحث على الانترنت في ذلك الوقت، وهذا جعلني أغير وجهة نظري كليا حول العمل كطيار مقاتل، وبدأت فكرة أن أصبح طيارا مدنيا فكرة متقبلة ومحببة أكثر إلى قلبي.
ما مدى التطور الذي شهدته الطائرات لتسهل مهام قائدها؟
صناعة الطائرات تطورت بشكل متسارع خلال الـ100 عام السابقة، قد تبدو هذه فترة طويلة لكن دعوني أذكركم بأننا في عام 1900م لم نمتلك أي طائرة تطير بمحرك، وهذا التطور لم يصل إلينا إلا بعد المرور بسلسلة أحداث تاريخية غير متوقعة بشكل كبير.
وبعد ظهور أول طائرة ذات محرك في عام 1903م ظهرت أنواع أكثر كفاءة خلال السنوات التي تليها وبدأ الموضوع يتحول من شغف بالطيران إلى أن أصبح أمر يستخدم لخدمة الناس في ذلك الوقت، وهذا يظهر لنا حينما استخدمت الطائرات كوسيلة لنقل البريد أولا، تلاها استخدامها في المهام الحربية والصراعات الدولية للأسف، لكن هذي الصراعات دفعت بالصناعة لبعد آخر وأوجدت أنواعا من الطائرات ذات جودة ومدى أبعد.
بالنسبة للطائرات التجارية الأولى كانت الرحلات تقتصر على طبقة معينة من الناس فقط وهي طبقة الأغنياء بسبب التكاليف التشغيلية العالية وندرة وجود الطائرات، كما كانت الطائرات تحلق على ارتفاعات بسيطة وبسرعات بطيئة نوعا ما، وهذا ما جعلها ذات مدى محدود جدا، لكن الآن وسيلة السفر عبر الطائرات أصبحت متوفرة للجميع وبأسعار تنافسية وخدمات أكثر رقي عن السابق.
توفر خدمة الطيران للجميع يعزي بشكل أساسي لتطور أنظمة الملاحة وتتبع الطرق في السماء عن طريق الأقمار الصناعية، بالإضافة إلى خواص الضغط داخل مقصورة الطائرة وكفاءة المحركات التي أدت إلى القدرة على التحليق في ارتفاعات أعلى تستطيع من خلالها الطائرات توفير كميات كبيرة جدا من الوقود مع زيادة ملحوظة في سرعة الطائرة.
هل للطائرات سرعة محددة؟
القانون ينص على أن سرعة الطائرة الحقيقة تزيد بمقدار يقارب 2٪ لكل 1000 قدم عن سطح الأرض، فبدلا عن زيادة السرعة عن طريق ضخ مقدار أكبر من الطاقة في المحركات، كل ما عليك فعله هو زيادة ارتفاع الطائرة عن الأرض وسوف تبدأ السرعة بالتزايد تلقائيا بفعل الخصائص الجوية.
وما هي أبرز الصعوبات التي تواجه الطيار؟
الصعوبات متنوعة قد يكون أهمها هي المسؤلية الكبيرة التي تقع على عاتق أفراد الطاقم من ناحية تأمين بيئة تشغيلية آمنة للركاب، فمع وجود ضغوطات كثيرة تحوم حول الطيار من النواحي العملية والتشغيلية والجسدية والاجتماعية يصبح أمر تقسيم الأولويات مهم بشكل كبير، فمثلا نظام العمل لا يكون منتظما في معظم الأحيان فجدول الرحلات قد يتنوع بين رحلات مسائية ورحلات صباحية بدون وجود رتم متناسق، وهذا يسبب مشاكل تتعلق بالمحافظة على نظام محدد للنوم قبل الرحلات مما يؤدي لدخول الجسد في حالة من الإرهاق والتعب.
كذلك الرحلات المتكررة والطويلة قد تسبب في أمر مماثل، ناهيك عن الصعوبات المتعلقة بتشغيل الطائرة نفسها وكمية التركيز لساعات طويلة خلال الرحلة منذ بدايتها إلى النهاية والتحليق مع وجود الظواهر الجوية المختلفة من رياح وعواصف رعدية أو رميلة والمطبات الهوائية والسحب وكل هذه العوامل التي تسترعي اهتماما خاصا لتجنبها أو العبور من خلالها بصورة آمنة على الأقل.
أخبرنا عن أصعب موقف مر عليك خلال فترة عملك وأنت في الجو؟
أحمد الله بأن معظم رحلاتي تكون جيدة وفي حد المقبول من الصعوبات، ولم أقابل موقفا يسترعي الانتباه بقدر كبير.
لكن من المواقف التي أذكرها عندما حلقت طائرتي في مجال المطبات الجوية الناشئة من طائرة أخرى كانت تحلق في الاتجاه المقابل وعلى ارتفاع أعلى، هذه الظاهرة معروفة وتحدث بشكل مستمر لكن بسبب اختلاف حجم الطائرتين وشدة المطبات دخلنا في حالة من الهلع المفاجئ والاضطرابات الجوية التي أفقدتنا التحكم في الطائرة لعدة ثواني وبعدها استعدنا التحكم ولله الحمد.
وما شعورك حين فقدان السيطرة على التحكم في الطائرة؟
الموقف كان مرعبا لحد كبير بالنسبة لي بصراحة، ولا أعلم كيف كان شعور الركاب، لكن الحمد لله الطيارين على علم بكل هذه الظواهر ويحاولون تجنب الوقوع في شباكها بكل تأكيد.
لكن مع امتلاء الأجواء بالطائرات أحيانا تصبح الخيارات المتوفرة لدى الطيارين قليلة وهنا يكمن مربط التحدي الذي يجب علينا حله بشكل يومي، وهو كيفية الخروج من المأزق بشكل سليم في كل مرة.
هل صادفت خللا فنيا في الطائرة، وكيف تم التعامل معه؟
الطائرة كأي وسيلة نقل أخرى تصاب بالأعطال وتحتاج لصيانة ومتابعة مستمرة، الجميل بأن مجال الطيران يعتبر أكثر الوسائل أمنا وهذا له سبب محدد وهو مدى حرص منظمات الطيران على مسائل الأمان والتشغيل الآمن وعمليات الصيانة الدورية للطائرات.
الحمد لله معظم الأعطال التي واجهتها كانت قبل بدء الرحلة أو بعد انتهائها، أي كلها على سطح الأرض وليس في السماء، وهذا امر جيد بسبب تواجد فرق الصيانة والتي نقوم باستدعائها لتقديم العون والمشورة في حالة حدوث أمر طارئ أي خارج عن المألوف.
هل العطل الفني أثناء الرحلة يؤدي لحالة الطوارئ؟
بداية أرغب في أن أنوه بأن الطيارين مدربون بشكل جيد على التعامل في أسوأ حالات الطوارئ في السماء، فحدوث أي عطل فني لا يعني دائما بأن الرحلة سوف تدخل في حالة طارئة، فالطائرات مجهزة بأنظمة احتياطية في أغلب الأحيان.
كذلك توجد تصنيفات خاصة بالأعطال الفنية والتي تقسم إلى أعطال بسيطة ولا تؤثر على تشغيل الرحلة والطائرة وتوجد أعطال يجب معها إيقاف الطائرة عن الطيران لحين إصلاح المشكلة أو العطل الفني.
لذلك ومن أجل جعل حركة الطيران أشكل سلاسة وربحية من قبل شركات الطيران يتم تحديد مدى الحاجة لإصلاح العطل ومن خلال عملية التحليل يتم اتخاذ القرار بإيقاف الطائرة عن العمل أو بالسماح لها بالتحليق لعدة رحلات مع وجود العطل وحينما يحين الوقت المناسب يتم إرسالها لعمل الصيانة اللازمة، وهذا أمر طبيعي جدا ولا يخل أبدا بمبدأ السلامة على متن الطائرة.
ما هي أبرز السمات التي يجب أن يتحلى بها الطيار؟
الطيار قبل كل شي هو إنسان يتحلى بصفات وطبائع مختلفة عن باقي الناس، لأن هذه المهنة تتطلب نوعا ما من الصفات التي يجب أن يضبط بها الطيار نفسه لكي تسهل عليه مهام عمله.
وفي وجهة نظري قد تكون صفات التحلي بالصبر وعدم التسرع والمقدرة على التفكير والعمل تحت الضغط هي أهم الصفات، كذلك الانضباط والمقدرة على العمل ضمن الفريق هي أمور مهمة أيضا، فالطيار يجب عليه التعامل مع مجموعة مختلفة ذات مهام مختلفة كالمهندسين الطيران والمضيفين الجويين والموظفين الأرضيين، وكل هذا الخلط في طبيعة عمل كل قسم قد يسبب تشتتا ذهنيا وإرباكا للبعض.
كيف تتعامل مع الوضع الأسري وأنت في ترحال دائم وبعيد عن وطنك؟
أظن بأن موضوع الحياة الاجتماعية للطيار فيه نوع ما من عدم الدقة بين أوساط الناس، فعملي يتطلب نوعين من السفر، نوع أذهب فيه لرحلة قصيرة وأعود إلى المنزل في نفس اليوم، والنوع الآخر يستمر السفر فيه يومين أو أكثر قليلا وبعدها أعود للمنزل، لكن بشكل شهري أحصل على سبعة أيام إجازة رسمية على أقل تقدير، وقد يزيد عدد هذه الأيام لتصبح 10 أو أكثر.
ولو قمنا بعمل مقارنة سريعة لمعظم الناس الذي يعملون في نفس المنطقة من مكان عيش أسرهم فسنلاحظ خروجهم يوميا من الصباح والعودة مساء إلى المنزل ويقضون جزء من هذا الوقت في الراحة وجزء للعائلة.
ويوجد النوع الآخر والذي ألاحظ بأنه منتشر وبكثرة وهو خروج الموظفين وانتقالهم إلى مدينة أخرى للعمل في أيام الأسبوع، وبهذا يقضون خمسة أيام بعيدين عن أسرهم بشكل متواصل وبعدها يعودون إلى المنزل ليومين، وهذا في نظري ليس جيدا من ناحية الحياة الأسرية إذا ما نظرنا لحدوثه على مدار العام بصورة مستمرة تقريبا إلا في حالة الإجازات السنوية للموظف.
كذلك كطيار من النادر أن أبتعد عن المنزل لفترة تزيد عن 3 أو 4 أيام، الفرق الأساسي بين النظامين هو أن الموظفين بدوام رسمي يكون جدولهم اليومي منظما بشكل جيد، من حيث موعد بدء العمل والانصراف منه، وموعد عطلة الأسبوع أيضا ثابت وهذا يسهل عملية التخطيط للاعمال اليومية بشكل أفضل ويتيح مشاركة الأهل والأصدقاء المناسبات والتجمعات.
بينما نظام عمل الطيار يكون غير ثابت أبدا ويصعب معه حضور معظم المناسبات إذا لم يصادف ذلك اليوم يوم راحة أو إجازة عند الطيار، وهنا تكمن الصعوبة بشكل رئيسي، لكن مع مرور الوقت يتغلب الشخص على هذا الروتين.
وأنا في أيام العطلات أحاول تنسيق جدول الأعمال والزيارات مسبقا بحيث أستطيع عيش حياة اجتماعية عادية نوعا ما، وشخصيا لا أراها مشكلة كبيرة في نظري لكن وجب على تقبل فكرة عدم تمكني لحضور مختلف المناسبات أحيانا أو حضور جزء منها بسبب وقوع جدول رحلاتي في نفس موعد المناسبات مثل الأعياد والأعراس والتجمعات العائلية وغيرها.
متى ستتخذ قرار التوقف عن الطيران والاتجاه إلى العمل الإداري؟
العمل كطيار هي وظيفة مستمرة لدى معظم الطيارين، وفي معظم الأحيان للانتقال يكون في داخل نطاق العمل لكن لا يعني التوقف عن الطيران، ومثل هذه الخطوات بالإمكان القيام بها بعد حصول الطيار على مستوى جيد من الخبرة بحيث تؤهله لتقلد المناصب الإدارية والتي يغلب عليها الروتين العادي، بينما يقل عدد الرحلات بشكل كبير.
وأعتقد بأن المسار المهني سوف يقودني في يوم من الأيام للعمل على الأرض إما في وظيفة إدارية أو في أقسام التدريب على أجهزة المحاكاة، لكني لا أسعى للتخلي عن فرصة التحليق المستمر لعدة سنوات على الأقل، وفي النهاية الأمر متوقف على توفيق الله سبحانه وتعالى وتمتعي بصحة وعافية.
ما هي نصيحتك وتوجيهك للأشخاص المتجهين إلى مهنة الطيار؟
أولا عند اختيار أي مهنة، يجب أن تكون الميول والرغبات هي المحرك الأساسي الذي يقود الشخص لدخول المجال، ويجب الابتعاد عن ما أسميه الجذب العاطفي أو المادي في المهنة.
لقد قابلت وتحدثت مع الكثيرين ممن يرغبون في دخول مجال الطيران فقط لأنه يشعر بأن له سمعة اجتماعية طيبة بين الناس، والبعض الآخر يتحدث عن الرواتب المرتفعة وأشياء أخرى، لكن معظم هذه الأشياء بالإمكان تحقيقها أيضا في وظائف كثيرة وليس العمل كطيار فقط.
ثانيا إذا قررت دخول مجال الطيران فيجب عليك فهم ما أنت بصدد إقحام نفسك فيه، المسمى الوظيفي والدعايات أمر مختلف عن الواقع أثناء العمل كطيار لدى شركة طيران تجارية، لذا يجب عليك البحث والتدقيق في بعض التفاصيل المهمة والتي ستحدد إذا ما كانت هذه الوظيفة مناسبة لك على المدى البعيد أم لا.
لكن بغض النظر عن كل هذه الأشياء، فالطيران أمر ممتع للغاية خاصة للناس العاشقين له، ويجب على الجميع السعي لتحقيق طموحاتهم بكل ما يستطيعون والتوفيق من الله، ولا يكفي بأن يقول الإنسان أرغب في العمل كطيار لكني لا أمتلك المقدرة، بل يجب عليه الأخذ بالأسباب والبحث عن كل الفرص المتوفرة في الساحة والتي تظهر من وقت لآخر، خيث توجد العديد من فرص التدريب التي يتم تقديمها من مؤسسات مختلفة خاصة من قبل شركات الطيران.
كذلك عند التقديم في هذه الفرص يجب الاستعداد الجيد لمراحل الاختبارات بالشكل المطلوب، فالشغف والرغبة القوية في دخول المجال لا تكفي لاجتياز الاختبارات.