مراد غريبي *
يحكى أنه جرى حوار بين عالم عارف و متعلم على سبيل نجاة، حول نقد الذات و محاسبتها، و مع نهاية الحوار نظر العالم في تلميذه المتعلم قائلا: أذكر لي مساوئي و عيوبي و نواقصي التي قد استشعرتها أو استوحيتها طيلة تعاملك معي…!!
انصدم التلميذ المتعلم متعجبا من طلب معلمه، و اعتذر و طلب من أستاذه أن يعفيه من هذا الأمر، لكن العالم ألّح وأعطاه الأمان بأنه لا يغضب منه مهما كانت صراحته قاسية… فنزل التلميذ عند طلب معلمه، و استهل ذكر عيوبه و بعد بضع دقائق توقف مستحييا من النظر في وجه معلمه لجرأته غير المسبوقة، ثم استعاد أنفاسه و قال لمعلمه بوقار: سيدي هل تكرمت و ذكرت لي عيوبي و نواقصي فأنت أجدر بهذا مني….تبسم العالم و قال لتلميذه: بني و هل يصف ناقص ناقصا؟ أنا و أنت متعلمين على سبيل نجاة و تعارفنا الصادق هو تمهيد لتصالحنا مع ذواتنا و بعضنا البعض…قد يتفكر القارئ ماذا نستفيد من قصة كهذه؟
هذه القصة هي درس بليغ للأفراد و للشعوب و الأمم في أبعاد حياتهم، لتفهم أن الله خلق الناس شعوبا و قبائل ليتعارفوا و يتعاونوا و يتبادلوا الفنون و الآداب و المهارات و يتنافسوا على فعل الخيرات و محاربة الأهواء و الأوهام، وعلى الرغم من صور الحياة الإنسانية المشتركة والسامية التي يطرحها كل شريك في البنية الإجتماعية، إلا أن الواقع يكاد يكون متناثرا، ومرتكزاً على المصالح الضيقة التي حملت بعداً وهدفاً لا يمت إلى تلك الصور بصلة إلا مع الذات الخاصة لا العامة..
لقد أصبحت الحاجة إلى تكريس ثقافة التعارف على خطوط طول و عرض التفاعل الاجتماعي في الأمة، ضرورة ملحة في المرحلة الراهنة، لما وصلنا إليه من صور العنف من الأسرة إلى الشارع و المؤسسات بشتى الحقول، ووسائل العنف تعددت و تنوعت، وارتكابه بحق شركاء الاوطان و الأمة والإنسان عموماً أصبح مشرعنا، فباتت مواجهة الصراعات بين شركاء الوطن و الإخوة في الدين و داخل المذاهب، والتي تعدّدت صورها لا يمكن أن تستمر، ولا يمكن أن يظل نفي الآخر -بجل تمثلاته- أساساً للحياة، لأنه إن استمر فهذا سينهي وجودنا كأوطان و أمة، ويدمّر أركانها معاً، أصبح لابد من نشر مبادئ العيش المشترك، وتطبيق تلك المبادئ، دون أن يتم تهميش عنصر من عناصر الوطن و الأمة او الدين و المذهب دون الآخر. وأن يكون التعارف منطلقا لبناء التعايش بكلّ صوره الإيجابية قائماً ومصاناً من الجميع عبر الركائز التالية:
• التعريف بالذات دون تسقيط الآخر بكل تمظهراته أو تهميشه.
• معرفة الآخر عبر التواصل و التبادل المعرفي من مصادره الأصيلة.
• الاعتراف بنسبية الحقيقة و الشراكة في ملكيتها و تنمية آثارها في الحياة.
• لابد من وجود القناعة التامة والإرادة الحرة، والرغبة الحقيقية المشتركة بين أهل الفكر و المذاهب و الطوائف الإسلامية في التعارف؛ والنابعة من نزعة العدالة الإسلامية..
• دراسة و تدريس تجارب وممارسات التعايش و التضامن و السلام الخاصة بالشعوب و الحضارات الأخرى التي تمكنت من تأسيس و تنمية التوافقات الاجتماعية بين عناوين التعدد فيها، بعد أن مرت بصراعات دموية…
• عدم فهم خيار التعارف كصيغة تفاوضية، لأن الإرث مشترك و المصير واحد فلابد من فهم عنوان التعارف كبديل ثالث و أهم لمستقبل الأمة و الأوطان و الأجيال ..
إن الحاجة إلى التعارف أساس التسامح و روح التواصل و غاية الحوار و منتهى بغية المكرمين، و ليس أبلغ و أدل على أهمية التعارف في حياة الأفراد و المجتمعات مثل الآية الكريمة: {يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[1]،و التي توحي لنا بضرورة مراجعة حقيقة التعارف في حياتنا كعرب و مسلمين، كعنوان حضاري إسلامي عظيم، و لابد أن نفهم أن التنوع الإنساني كخلق و جعل من الله تعالى، بالمنطق الإسلامي ماهيته تتحدد في التعارف و مدى الصبر عليه كإمتحان لمدى حيوية الكرامة عبر حركية التقوى في حياة الفرد و المجتمعات (شعوبا و قبائل)، و ما القصة السابقة سوى قطرة من بحر جواهر الآية الكريمة السابقة من سورة الحجرات التي تفتح آفاقا رحبة على ثقافة التعارف كأساس لأسلمة الحياة عبر استحضار توحيد الله الذي يجمعنا على التواضع و اللقاء و التراحم و التسامح…
إن الشطحات الشعبوية و القبلية و المذهبية و رمي التهم و التباغض الإنساني بكل تمظهراته، ما هي سوى محاولة القفز على الحقائق الإنسانية الاسلامية المنيرة بنور الحق و العدل عبر ضخ الترميزات الصاخبة في مقياس الطائفية…و أي سيناريو يتجاوز أساس التعارف بكل لوازمه المشتركة بين أطرافه، هذا السيناريو ماهو سوى محاولة الانقلاب على أمر إلهي عظيم يتعلق بكرامة الناس و بالتقوى كمطلب ثقافي في المنظومة الحضارية للمسلمين….ثم إن التعارف في المنظور الإسلامي فرض إلهي و حق لكل أبعاد التنوع الإنساني (أفرادا و مجتمعات) آثم تاركه من المسلمين إبتداءا، ظالم منكره، و جواب سؤالنا التاريخي كأمة رهينة أزمات نفسية و إجتماعية ذات منشأ ثقافي و تاريخي: لماذا أنيميا الوحدة تنخر جسدنا الإسلامي؟ هو لأننا كشعوب و قبائل تعوّدنا على مقاطعة فاكهة التعارف!!!
إن الطائفية المحلول الوحيد الذي يكشفها في يومياتنا السياسية و المذهبية الثقافية و الاجتماعية، هو ماء التعارف (الحوار العلمي، النزعة الانسانية، الشراكة في الحقيقة)، و مهما قرأنا عن شجاعة التعارف و سمعنا عنها لا يمكننا تذوق حلاوة ثمار التعارف إلا بالممارسة عبر الحوار و الانفتاح لإكتشاف حقائق التسامح و التعايش… و تجاوز المأزق الحضاري الذي يكمن في البنية التحتية المولدة لأفول و غياب و نكران قيمة التعارف، كمقولات احتكار الحقيقة وفتاوى العجب الطائفي وغيرها. حيث تتمركز معضلات ضحالة النظر وتعطيل مشاريع التجديد و الانفتاح على بعضنا البعض في ظلال المحبة الإسلامية …
إن ثقافة التعارف تبقى الوصفة المثلى للتنمية بكل أبعادها، و مركز ثقلها هو التواضع كأفراد و أساسا النخب منهم و كشعوب و قبائل و طوائف و قوميات، حتى نكون أهلا للتعارف و الرقي للكرامة الحضارية الحقة التي لا تتجلى عبر الزمن كله إلا تحت لواء التقوى في تفاصيل الحياة كما في العبادات…فتعالوا إلى نستلهم آفاق قيمة التعارف..
*كاتب و باحث في الفكر
**الصورة من محرك البحث العالمي (جوجل)