شؤون عمانية
أزمة سياسية حدثت بين بريطانيا وفرنسا بسبب قيام بعض السفن العمانية برفع العلم الفرنسي في عهد السلطان فيصل بن تركي “حكم: 1305 ـ 1331هـ ـ 1888 ـ 1913م” يعود رفع السفن العمانية للأعلام الفرنسية إلى عام 1845م عندما أصدرت السلطات الفرنسية في مدغشقر تصريحاً لإحدى السفن العمانية برفع العلم الفرنسي، ويعني رفع الأعلام الفرنسية تمتع تلك السفن بالامتيازات نفسها التي يتمتع بها الفرنسيون في عمان، ومن ضمنها عدم تفتيش السفن من قبل السلطات البريطانية وبالتالي تمارس تجارتها بحرية، خاصةً ما يتعلق بتجارة الرقيق وتجارة الأسلحة.
وصل عدد السفن التي ترفع الأعلام الفرنسية 44 سفينة عام 1896م وكان أغلبها مملوكاً لأهالي صور الذين كانت تربطهم علاقات تجارية مباشرة بالسلطات الفرنسية الموجودة في المحيط الهندي.
أزعج انتشار رفع الأعلام الفرنسية السلطات البريطانية، إذ حدّ من صلاحياتها في القضاء على تجارة الرقيق ومراقبة تجارة السلاح، وبذلك بريطانيا الجهود الدبلوماسية والعسكرية للقضاء على ظاهرة الأعلام الفرنسية والحد من انتشارها، وذلك بتهديد السلطان فيصل بقطع معونة زنجبار، ومطالبته برفع علمٍ خاص به على جميع السفن التي يملكها رعاياه في الموانئ العمانية، والقيام بانتزاع الأعلام الفرنسية وتمزيقها وجلد أصحابها.
فضّل السلطان فيصل معالجة الموضوع بطريقة دبلوماسية، فأرسل بتاريخ 26 مايو 1897م مذكرة احتجاج إلى الحكومة الفرنسية على توزيعها تصاريح رفع الأعلام الفرنسية على السفن العمانية، إلا أن السلطات الفرنسية لم تهتم بالموضوع، مما دفع وزارة الخارجية البريطانية إلى إرسال مذكرة إلى وزارة الخارجية الفرنسية أوضحت فيها أن توزيع الأعلام الفرنسية على السفن العمانية يعتبر خرقاً للإعلان المشترك الصادر عام 1862م بين بريطانيا وفرنسا والمتعلق باحترام استقلال عمان وحريتها.
قام السلطان فيصل بزيارة ميناء صور في يونيو 1900م برفقة بيرسي زكريا كوكس الوكيل السياسي والقنصل البريطاني بمسقط، وخلال هذه الزيارة أصدر السلطان بياناً يتعلق بعدم اعترافه بسيادة أي دولة أجنبية على ميناء صور، وحرية السلطان والحكومة البريطانية في تفتيش السفن العمانية وفرض الضرائب على أصحابها.
خلال هذه الزيارة أيضاً طالب السلطان فيصل أهالي صور بتسليم التصاريح والأعلام الفرنسية التي بحوزتهم، وتمكن من الحصول على ثلاثة تصاريح، ووعده أصحاب السفن الأخرى المصرّح لها بتسليم التصاريح والأعلام إلى القنصل الفرنسي في مسقط.
بعث السلطان فيصل بعد عودته إلى مسقط برسالة إلى أوتافي، نائب القنصل الفرنسي بمسقط مرفقاً بها التصاريح الثلاثة، غير أن القنصل رفض تسلمها، فأصدر السلطان بياناً آخر يمنع فيه رعاياه قبول أي حماية أجنبية على الأراضي المياه الإقليمية.
أشار السفير الفرنسي في لندن أثناء اجتماعه بوزير الخارجية البريطانية بتاريخ 25 يونيو 1900م إلى ضرورة إعادة التصاريح والأعلام الفرنسية إلى أصحابها، في الوقت الذي أصر فيه هاملتون وزير الهند على ضرورة لفت نظر الحكومة الفرنسية إلى الأخطار المترتبة من جراء رفع الأعلام الفرنسية من بينها استمرار تجارة الرقيق وتهريب الأسلحة، وطالب الحكومة الفرنسية بعدم الاستمرار في إصدار تلك التصاريح.
أبحرت السفينة الفرنسية دروم إلى ميناء مسقط في أغسطس 1900م وطالب قائدها بضرورة إعادة تسليم التصاريح والأعلام الفرنسية إلى أصحابها، كما طلب أوتافي من جميع الذين سلموا وثائقهم وأعلامهم للسلطان فيصل بتسلم غيرها من القنصلية الفرنسية، مهدداً باستعمال القوة لو رفض السلطان الموافقة على هذه المطالب، فاستنجد السلطان بالسلطات البريطانية مما اضطر السفينة دروم إلى الانسحاب، وعاد السلطان يطلب من أصحاب السفن في ميناء صور نزع الأعلام الفرنسية، غير أن الأهالي لم يستجيبوا لأوامره، وذلك للارتباط الوثيق بين أصحاب هذه المراكب والمستعمرات الفرنسية، مما أسهم في ازدهار تجارتهم برغم ما كانت تعانيه من الخوف لتعرضها إلى التفتيش من السلطات البريطانية.
انتهرت السلطات البريطانية فرصة انتشار وباء الكوليرا في مسقط عام 1903م فوضعت المركز الطبي تحت إشراف طبيب الوكالة البريطانية وإدارته، وأعطي للوكالة البريطانية الحق في تنظيم حركة السفن العمانية وتفتيشها، بحجة أن لتجارة الرقيق ونقلهم عبر البحر في ظروف غير صحية دوراً في تفاقم المرض وانتشاره، وفي 8 إبريل 1903م وصل خمسة عمانيين على متن سفينة البريد الهندية، وكان ثلاثة منهم تحت الحماية الفرنسية، فحجزوا ولكنهم هربوا، تم تمكنت السلطات البريطانية من القبض عليهم بعد ذلك واحتجازهم، وأثار هذه الموقف مشكلةً بين بريطانيا وفرنسا، فأرسلت فرنسا البارجة إنفرنت إلى مسقط بتاريخ 11 مايو 1903م وطلب قائدها إطلاق الرعايا الفرنسيين مهدداً باستعمال القوة، واستمرت المفاوضات حتى 25 مايو من ذات العام، إذ وافقت السلطات البريطانية على إطلاق سراح المحتجزين، وأحيلت قضية الأعلام الفرنسية إلى محكمة العدل الدولية للتحكيم.
صدر حكم محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن قضية الأعلام الفرنسية بتاريخ 8 أغسطس 1905م وتضمنت بنوده النقاط الآتية:
ـ السماح لأصحاب السفن العمانية برفع الأعلام الفرنسية إن كانوا حاصلين على تصاريح لذلك قبل تاريخ 2 يناير 1892م، والسبب في اختيار هذا التاريخ هو كونه تاريخ التوقيع على ميثاق بروكسل الخاص بالتفتيش البحري ومنع تجارة الرقيق، ولا يحق للحاصلين على تصاريح بعد هذا التاريخ رفع تلك الأعلام، إلا إذا ثبت أنهم كانوا رعايا فرنسيين قبل عام 1862م، أي قبل صدور التصريح المشترك بين الحكومتين البريطانية والفرنسية باحترام استقلال عمان.
ـ يمنع التنازل عن هذه التصاريح أو تحويلها إلى مركبٍ آخر بأي طريقة، ومن يفعل ذلك يعرض نفسه إلى المساءلة القانونية.
ـ لا يجوز انتقال التصاريح والأعلام الفرنسية إلى ورثة صاحب المركب الذي لديه تصريح برفع العلم الفرنسي عند وفاته.
ـ يحق لمن لا يرغب في استعمال التصاريح والأعلام الفرنسية إعادتها إلى القنصلية الفرنسية.
ـ يخضع أصحاب السفن الممنوحة التصاريح للسلطات العمانية.
ترتب على تحكيم لاهاي نتائج سياسية واقتصادية، فقد مثّل انتصاراً للنفوذ البريطاني في المنطقة، مما أدى إلى تخوّف القوى الأوروبية الأخرى المتطلعة إلى أن يكون لها نفوذ في المنطقة، خاصة ألمانيا وروسيا، كما تمكّن السلطان فيصل بن تركي من الإشراف على جميع الموانئ العمانية، خاصة ميناء صور، الذي كانت أغلب سفنه تتمتع بالحماية الفرنسية، وأدى القرار الذي لم يسمح بتوارث التصاريح الفرنسية أو انتقال ملكيتها من سفينة إلى أخرى إلى تناقص السفن الحاصلة على التصاريح الفرنسية لوفاة ربابنتها وتحطم هياكل بعضها، وأدى هذا إلى تقلص السفن العمانية الرافعة للأعلام الفرنسية تدريجياً.
المصدر: الموسوعة العمانية ـ الجزء الأول ـ ص167 ـ 169