جمال النوفلي
علاقة عمان بفرنسا تمتد إلى القرن السادس عشر ميلادي، حين جاءت السفن الفرنسية إلى المحيط الهندي باحثة عن حضور لها، وحين كانت عمان سيدة المحيط من رأس الرجاء الصالح وحتى جزيرة سيرلانكا، حينها أتحنا لهم إقامة ميناء صغير في مسقط لتخزين وتصدير الفحم مع زيارات واتفافيات تجارية متبادلة، كان الفرنسيون يحاولون أن ينشؤوا علاقات تجارية ودبلوماسية جيدة مع العمانيين، حتى نابليون نفسه حاول بعد الثورة الفرنسية أن يعيد توطيد العلاقات الخارجية مع الدول الكبرى في العالم التي منها عمان، وقد بعث الرسل إلى السلطان سلطان بن أحمد، ثم بعده لويس بونابرت أجرى اتصالات جادة مع السطان الأمجد سعيد بن سلطان جد جلالة السلطان هيثم المفدى -حفظه الله، وتجاوب السلطان سعيد مع رسل لويس نابليون من جانبه بل وبعث رسلا وفودا إلى فرنسا، كان أهمها بعثة سعيد الحاج درويش لأجل التجارة مع الفرنسيين والتي كانت بناء على دعوة موجهة من غرفة تجارة وصناعة مارسيليا حيث زارت البعثة المدن الفرنسية الكبرى وباريس.
طبعا كان ذلك يحدث في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تشن حملات عسكرية على العديد من الدول العربية والإسلامية والإفريقية.
في القرن الثامن عشر كانت فرنسا بالرغم من قوتها تعيش ما يسميه المؤرخون بعصر التنوير، كان المثقفون والعلماء في ذاك العصر يحاولون جاهدين نشر المعارف والعلوم لكل الناس بأطروحات جديدة متقدمة تضمن للانسان الحق في المعرفة والحق في التفكير والتعبير والحق في تقرير مصيره وتنظيم شؤونه وغيرها من الأفكار الحديثة، وكانت الكنيسة تحارب ذلك الانفتاح في التفكير وتعتبره جريمة، بل كانت الكنيسة مع الحاكم يحاربون المفكرين والعلماء والمثقفين، لإبقاء السيطرة في أيديهم على جميع الناس فلا عدالة ولا انسانية ولا حقوق لأحد في الاعتقاد والتفكير والتصرف والتملك، كان الفرنسيون يذوقون وبال الديكتاتورية وتسلط الدين في أبشع صوره. لكن الشعب الفرنسي المثقف في نهاية الأمر انتصر عليهم وكانت الثروة الفرنسية التي أطاحت بالحكم الوراثي وأطاحت بسيطرة رجال الدين على الحكم، وفصلت الدين عن الدولة، الذي سمي فيما بعد بالعلمانية.
العلمانية لا تعني فصل الدين الاسلامي عن الدولة، ولكن تعني فصل الدين بكل تشكلاته سواء كان دينا مسيحيا او يهوديا أو إسلاميا أو بوذيا أو أي دين قد يخلقه الله في المستقبل، فصله عن الحكم، فالمنطلقات الدينية ليس لها أي اعتبار في السياسة والنظام. وكان الحكم هو حكم الشعب، والسيادة هي سيادة الشعب، لا للدين ولا للمذهب ولا للقبيلة، والذي سمي فيما بعد بالنظام الجمهوري، فالجمهور هو من يقرر القانون، وعلى الرئيس والحكومة أن تمارسه وتحميه وتطبقه وتلزم الناس بتطبيقه.
هذا النظام وهذه القيم جاءت بعد الثورة الفرنسية، ثورة كبيرة أزهق فيها الكثير من الأرواح من الكبار والصغار وقتل في الملك، وسجن وقتل فيها المفكرون والمثقفون والعلماء، وقدمت لأجلها الأمهات الفرنسيات فلذات أكبادهن، فلهذا لا يمكن ولا يتصور أن يأتي رئيس فرنسي منتخب ليعمل عكس مبادئ الثورة الفرنسية لأجل خاطر مجموعة من البشر لا تعيش في فرنسا وإنما في دول مختلفة من العالم الثالث.
لكل دولة قانونها ولكل إنسان توجهاته الدينية وقناعته وفرنسا تتيح للناس التفكير بحرية والتعبير بحرية، وتدعم التفكير والابداع والإنتاج، ولهذا يهاجر إليها الكثير من البشر من كل أنحاء العالم، الذين منهم المسلمون والعرب الذين لم يستطيعوا أن يمارسوا معتقداتهم وأن يعبروا عن آرائهم بحرية في دولهم أو الذين لم يحصلوا على حياة كريمة ومرفهة في أوطانهم، استقبلتهم فرنسا وغيرها من الدول الأوربية من منطلق إنساني فقط مقدمة لهم المعونة والأمان والمعيشة الكريمة الهانئة، وهي لا تطلب منهم شيئا سوى أن يحترموا قانونها ويلتزموا به.
لكن بعض المسلمين هناك بخلاف باقي الديانات التي منها اليهودية والبوذية يقومون بمخالفة النظام فيفجرون الكنائس والشوارع ويقتلون الأبرياء والأطفال الذين قد يكون منهم المسلمون وغير المسلمين، بحجة أن فرنسا دولة كافرة وأنها تتيح للناس ممارسة دياناتهم والتعبير عن أفكارهم ضد الأديان التي منها الدين الفرنسي.
ثم نأتي نحن وبقية المسلمين من كل العالم لنفرح بذلك النصر الذي حققه هؤلاء الشباب من خلال تلك الأعمال الإجرامية وبل ونؤيدها ونقول تستحق فرنسا هذا الذي يحصل لها أو يتسحق الرئيس الفرنسي هذا الذي يحصل في فرنسا، بينما الذي قتل هم أناس أبرياء ليس لهم علاقة بالموضوع، وإذا حاول النظام الفرنسي معاقبة المجرم المخالف للنظام، غضب المسلمون وخرجوا في مظاهرات ودعوا إلى مقاطعات اقتصادية وتجارية.
وبدأ دعاة الدين في تشجيع الشعوب وتحريضهم ضد هذه الدول التي هي نفسها تتكون من عدد كبير من المسلمين يمارسون فيها الاسلام ويدعون إليه بحرية أكبر من ما يتاح لهم في الدول الاسلامية، يأتي هؤلاء الدعاة في الدول العالم الإسلامي فيخطبون الخطب ويرسلون الهتافات والدعوات لنصرة الاسلام ضد الدول الكافرة ويدعون الله عليها وعلى شعوبها، ثم ينبري أحد ممن أثاره هذا الخطاب فيفجر أو يقتل أو يذبح الأبرياء بشكل عشوائي أو مخطط، ظانًا أنه انتصر لنبيه وصار بطلا وشهيدا مثل شهداء بدر كما صور له من خلال الخطاب الديني الذي ندعو إليه ونضعه في صفحاتنا في وسائل التواصل الاجتماعي.
أي نتيجة يهتز لها عرش الرحمان هذه؟ وكيف تطيب نفوسكم أن يقتل الناس الذين لا علاقة لهم بشيء والذين تنتظرهم عائلاتهم في منازلهم؟ ما ذنب التاجر المسلم الذي يعمل في استيراد البضائع الفرنسية أن تقاطع بضاعته وتكسد ويخسر؟ ما ذنب أبنائنا وأخوتنا المسلمين العاملين في هذه الشركات؟ أليس المصانع الفرنسية موجودة في المغرب والجزائر وتركيا ودول افريقية مسلمة، ما ذنب العاملين فيها والمتاجرين معهم؟ أليست تركيا هي من تدعو إلى المقاطعة؟ فماذا إذن لا تبدأ بنفسها وتغلق المصانع والفرنسية وتنهي العلاقات التجارية مع فرنسا؟ وهل ذنب الدول الغربية أنها استقبلت الناس والعرب والمسلمين ومنحتهم المعيشة الكريمة؟ هل هذه الدول سوف تستمر في تسهيل العيش والحريات للمسلمين في دولها إذا استمر المسلمون فيما يفعلونه من إرهاب وجرائم ضد الأبرياء؟ ألن تسعى كردة فعل إلى تضييق العيش عليهم لكي يعودوا إلى بلدانهم ويتركونها آمنة؟ ألن يسعى بعض المسيحين إلى القيام بردة فعل إرهابية كما حصل في نيوزلندا؟
إن خطاب الكراهية والمقاطعة لو تأملنا لعلمنا أنها تضرنا أكثر مما تنفعنا، بل ولا تنفع أحدا إلا بعض الدول التي لها مصالح أخرى من هذا الخطاب ضد فرنسا، لهذا كان النبي صلى الله وعليه وسلم يقول: (لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤا فلا تظلموا ) أي لا ينبغي على المسلم أن يجري خلف كل ناعق او نداء دون تفحص أو تعقل.
الوضع أشبه بمن يتعرض للسرقة وهتك عرض عائلته واغتصابها وقتلها ثم يذهب إلى الشرطة ليشتكي أن رجلا بائسا في غابات الاكوادور كتب منشورا يسب جده أو دينه أو نبيه، هل جده – كان حيا أو ميتا- سيرضى بهذا الحمق والذل؟!. وهل لشرطة الاكوادور القدرة أن تعاقب مواطنا اكوادوريا دون أن يرتكب جرما معاقبا عليه حسب قانونيهم.
لذلك أدعوكم إلى مقاطعة أنفسنا بدل من مقاطعة الدول، لأننا أضعنا البوصلة، فبدلا من أن نسعى إلى إعادة أحياء أمجاد الأمة الإسلامية والشعب العماني بالعلم والتقدم والاجتهاد في تحقيق إنجازاتنا وأهدافنا الموكلة إلينا في هذه الفترة الاقتصادية والسياسية الخطيرة، فإننا نترك كل ذلك لنجعل من أنفسنا لعبة في أيدي بعض الدول لكي تحقق من خلالنا مآربها.
الفرنسيون لن يتراجعوا عن نظام جمهوري صيغ بالتضحيات وبيع من أجله الغالي والنفيس، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم تؤذه إساءات كفار قريش ولم تؤذه أفعال القرامطة ولم تؤذه إساءة الرسامين الدنماركيين ولا الهولنديين ولا المسلمين وكذلك بطبيعة الحال لن تؤذه رسومات الفرنسيين، ولم ولن تؤذي أحدا منا، لكن الإبرياء من المسلمين وغير المسلمين الذين يقعون ضحية هذا الخطاب هم الذين يتأذون ويعانون ويتألمون.