مراد غريبي
ليست وليدة اليوم ظاهرة التحيز الفكري السلبي، بل هي ظاهرة رجعية بإمتياز عرفها تاريخ العرب و المسلمين في تجاوز الفكر التنويري و الإصلاحي و اصحابه عند تناول مواضيع تخصهم بالبحث ، و لعل ذلك راجع لحاجة في نفوس اصحابها من باحثين و مفكرين و كتاب و علماء دين، كل ذلك على الرغم من أن الباري عز وجل أشار للقضية بكل وضوح و بصيغة الأمر في كتابه العزيز: و لا تبخسوا الناس أشياءهم” الناس بغض النظر عن خصوصياتهم و اختلافاتهم، ليس غريبا أن يسوق مؤخرا كتاب عن فلسطين المحتلة كمسؤولية دينية مصيرية في فكر علماء دين، أحاطوها بالعناية و الدفاع عن مقدساتها و شعبها و هويتها، بينما يستثنى اسم عالم دين قد انتقل لرحمة ربه، لأن المؤلف لا يتفق مع أفكاره و مواقفه و مطارحاته الاصلاحية و التجديدية و آراءه الفقهية و الفكرية، على الرغم من أن هذا العالم ليس هناك من منصف لا يشهد له بأنه حامل لواء القضية الفلسطينية في منبر الجمعة و كل مواقفه عبر الاعلام المكتوب و المسموع و المرئي ، و للأمانة مضامين موقع مؤسسته العلمية الالكتروني خير دليل على ذلك.. من هذا الحدث كأنموذج طازج و كمثال حي يعكس مستوى الفعل الثقافي المشوه عندنا، يبدو أن ظاهرة التحيز في واقعنا الثقافي العام، تزداد اتساعا و حضورا خصوصا على مستوى المشاهد الثقافية و العلمية و المنصات الإعلامية و شبكات التواصل الإجتماعي، لا يمكنك ان تعاين مقالا أو كتابا خاصا بالجدليات المتعددة الأبعاد او برامج حوارية في راهننا العربي و الاسلامي إلا و تستشف و لو خيطا رفيعا من صور سلبيات التحيز المعرفي أو الفكري أو الجهوي العام، وهذه ظاهرة مرتبطة بالمركزية الثقافية الشاملة لمكونات المنظومة الاجتماعية للمجتمعات العربية و الإسلامية، حيث هناك في الفكر العربي و الاسلامي المعاصرين، العديد ممن درسوا التحيز مثل المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي كان من الأوائل الذين دعوا إلى فقه التحيز من خلال نقده للتيار المتغرب و الداعي لتبيئة الحداثة الغربية بكل حمولاتها في واقعنا العربي و الإسلامي، و كذا الدكتور وائل الحلاق في نقده لكتاب الاستشراق للراحل ادوارد سعيد، الدكتور محمد شاويش في بحثه لمفهوم الإستلاب الفكري و البحثي، فتم تصنيفه إلى صنفين منه:
السلبي: أو المذموم و الذي ينبع من أحكام تعسفية غير منصفة و فاقدة للأمانة العلمية و المصداقية الأخلاقية في النقد..
الإيجابي: أو المحمود منه وهو نتاج تمحيص علمي وفق منهج رصين و تقييم معرفي دقيق مع مفاصلة بين الذات و موضوع النقد.
البارز ان التحيز في صوره كظاهرة نفسية إما أن يكون معتدل أو متطرف و هذا الأخير لا ينحاز وفق مبدأ نشدان الحق و إنما وفق مزاجه الشخصي، أما ما يراد به الاعتدال فيها، مما يقصد منه الدفاع عن الحق و الحقائق والوقوف الى جانب اهله، فهذا بديهي و منشود لدى العقلاء و المعتدلين في كل الأمم، كما أن الصنف الذي يعبر عنه الدكتور المسيري بالإيجابي فإنه متطور و منفتح على صور و تمثلات الحق و العدل و الإصلاح و التجديد و التطوير و التنمية على اساس مبدئي قيمي أخلاقي إنساني حضاري و ليس نفسي تشاؤمي صدامي و تسقيطي تعسفي منكر لكل نجاح و إنجاز و جميل لدى غيره..
ما أود الوقوف عنده بعجالة، أن الناقد العربي أو الإسلامي المعاصر، في الغالب الأعم إما متمرد أو متنمر أو متجبر أو منكر (على) للحقائق أحادي الرؤية و معقد المزاج ، قلة هم النقاد الشجعان المنصفون أو المعتدلون في أروقة الفكر العربي و الإسلامي، لهذا مشهدنا الثقافي دائما يعاني من غلبة الذاتية على الموضوعية في مناقشة الإشكالات أو المشكلات المصيرية، فالإسلامي عندما يتعلمن يصبح شرسا أكثر من العلماني الأصلي و العلماني المغرور يرى مطارحاته قرآنا يوحى و الطائفي البليد لا يتحمل صواب و نجاح غريمه من غير حزبه أو مذهبه أو طائفته أو قومه أو عشيرته، هكذا التحيز كتطرف و جحود يسيطر على العقول و القلوب و يفسد النفوس و يهلك الحرث والنسل بإسم الوهم المعرفي و العجب الديني والغرور الثقافي، حتى امتد الكساح الأخلاقي بين من -المفروض- هم علية أهل الفكر و الثقافة و الدين و الإجتماع، فضاعت الفضائل و الأعراف الطيبة و تفشى سرطان العجب في كل حقول المعرفة و الثقافة مما اورث شبه عقم في النظر و الاجتهاد و التعارف و التعاون معرفيا..!!
صور التحيز منشأها تربوي-معرفي لا يولد كبيرا بل هو تراكم لأفكار و سلوكيات و تزاحم لمصالح، لا يمكنك ان تجد متحيزا متطرفا بلا رصيد نفسي مأزوم و عقلية منغلقة متعصبة، لأن مظهر التحيز المتطرف هو في ظاهره الجبل الجليدي للمثقف المتفوه و الكاتب الهمام و الخطيب الصداح ، و ما خفي أعظم، من نكوصات و انتكاسات و أحقاد و ظنون و غرور، هذه الطاقة السلبية كلها تتحكم في البرمجة العصبية للشخص بحيث لا يمكنه أن يقبل غير ما يراه هو أو جماعته أو قومه أو عنصره صوابا أو حقا أو شرعا.. و تزداد خطورة التحيز السلبي عندما يتبلور في شكل فئوي أو تنظيم اجتماعي يصنع التطرف و العصبيات المقيتة و يسوق لثقافات السوء بإسم الوعي المزيف و الدين الملبوس مقلوبا كما الفرو، هذا المستوى من التكون و الفعالية داخل المجتمع على المدى القريب يمثل تهديدا حقيقيا للسلم الاجتماعي والتعارف الثقافي بين شركاء الوطن و الأمة، بل و حتى بين أهل الخط الواحد ..
ببساطة التحيز السلبي حلقة فكرية معرفية نوافذها مغلقة عن الهواء الطلق، ترى بعين الهوى و منطقها متخمر لم يدخل غمار النقاش حتى يتجدد و يزداد مناعة، و لعل جل الأزمات في الاجتماع العام مردها للتحيزات المعرفية المتطرفة السلبية، و خير مثال على ذلك هي الطائفية بشتى أشكالها في الجغرافية العربية و الإسلامية..
بالمختصر التحيز السلبي هو القابلية للإستلاب الفكري داخل الكنتونات الذاتية أو خارجها، لأن إرضاء الجماعة على حساب قيم العدل و الإنصاف و الحقيقة هو شرخ في وعي الجماعة يتسع كلما ازداد الانحراف و الظلم و الجحود و الانغلاق و احتكار الحقيقة..
بعد محاولة قراءة مقتضبة لظاهرة سلبيات التحيز ، لابد من التوصية ببعض النقاط المهمة في علاجها من الأساس:
1. كما سبق أن لمحت التحيز ذو منشأ تربوي فمدخل العلاج يبدأ من الأسرة ثم المدرسة و للإعلام دور كبير في هذا المجال.
2. تكوين المعلمين و الأساتذة يتطلب مقاييس مرتبطة بعلم النفس المعرفي، لأن التحيز السلبي غالبا ما يكون نتيجة لأساليب المعلمين و الاساتذة الخاطئة في تلقين الأطفال و تعليم الطلبة للمواد و المعارف و المعلومات و في أساليب النقاش و التحليل.
3. إدراج مقررات خاصة بفلسفة و فقه التحيز و مخاطر صنفه السلبي ضمن برامج المعاهد الدينية و الحوزات العلمية، لأن الخطاب الديني المعتدل لا يأتي من لا شيء، لابد من مواجهة التحيز المتطرف في عمق البرامج العلمية الدينية، مما يجعل قيم التسامح و التعايش و التعارف واقعا و يسهل مشاريع الحوار و النقاش علميا بروح تآلفية منفتحة على الآخر و ذات نزعة إنسانية صادقة تعكس الأخلاق الإسلامية القرآنية و النبوية الحضارية.
4. تشريع قوانين هدفها الحد من صور التحيز السلبي في المجالات الإجتماعية الحيوية، كخطوة استباقية للحد من بروز آفات التعصب و التسقيط و التهميش و التكفير و ما هنالك، خصوصا في المقررات الدراسية ككتب التاريخ و العلوم الدينية و الاجتماعيات، و كذا في البرامج الإعلامية خصوصا منها الحوارية التي تعمل على إثارة النعرات الطائفية و التبخيس الثقافي للأقليات و للشخصيات المحترمة، بالإضافة إلى ترشيد المضمون المعرفي للمنشورات سواءا كان ورقيا أو إلكترونيا، عبر المنع من النشر أو انذار أصحابها، كل هذا من أجل المصلحة العامة و الصحة الثقافية و المعرفية للمجتمع..
5. إنشاء مختبرات علمية خاصة بالعلوم الإنسانية و الاجتماعية و الدينية، وظيفتها رصد التحيزات العلمية و المعرفية المتعلقة بالهويات الوطنية و الدينية و اللغوية و المقاربات التاريخية، و ذلك لحماية الوعي الثقافي للأمة خصوصا ما يتعلق بالمقدسات و التاريخ و الهويات و اللغات، مثلا قضية فلسطين المحتلة كمواجهة للتمويهات الصهيونية المتعلقة بالمقدسات و التاريخ و المصير..
6. إنشاء يوم عربي و إسلامي للإعتدال لإبراز ضرورات التعايش و الانفتاح و التسامح و الحوار من أجل السلم الأهلي و العدالة الاجتماعية في الفكر و الواقع، ويكون يوما لرفض كل التبريرات لأشكال التطرف و التعصب و الإقصاء و التشويه و التسقيط و التضليل و التغليط المعرفي و التاريخي والثقافي العام..
7. تكثيف الأنشطة و الفعاليات الفكرية و الفنية و الثقافية الداعية لترسيخ قيم الاعتدال و النباهة و الأمانة والإنصاف في الفكر و القول و العمل..