مراد غريبي/ كاتب جزائري
رحلة تحكي عن الابتعاد و العودة ، عن الشوق و الخوف ،عن الألم و التقدم ، هي أفكار و عواطف و آمال و مآسي و معاني تلتقي في وعاء من الإبداع و الفن و النثر الباعث لعطر الوفاء و حنين البقاء و اللقاء، فيها من كل العبارات و العبرات فيها الصدق و العتق و الرق و الشوق فيها ترانيم و ألوان ، من العنوان تلمس قمة الإحساس و مدى الحياة لأن (في) تعني لابد أن تتفضل بالدخول و (رثاء ) هناك ذكريات متنوعة مثقلة بالأحاسيس والتعابير المؤلمة و المعاني الراقية و التجارب المعبرة و الإرهاصات المستمرة…إنها اشتياق عظيم لكل خصوصيات الياسمين الورد ، العطر، الشوك ، الجمال ، المعنى ، البسمة ، الأثر ، الفراشة ، النور و الماء و الهدية ثم …الحب، نعم الإنسان-الحب، الياسمين-حواء ..المرأة !!
هكذا اكتشفت لأول وهلة رائعة أختي الفاضلة الأديبة الدكتورة مريم الموسوي (في رثاء الياسمين)، في رحاب هذا الإبداع الأدبي لا يسعك إلا أن تستمر في الولوج إلى مملكة الياسمين لتكتشف خبايا و أسرار النفس البشرية المولعة بالعطاء و المشتاقة للوفاء و الثناء و التواقة للحب و الإباء ، هي جملة من التفاصيل المبعثرة في زوايا الزمن و أركان المكان بين صراعات الفكر و النفس ، العقل و القلب ، بين الممكن و المستحيل، بين الحلم و اليقظة ، بين ثنائيات الوجود و أزواج الكون الفسيح…حيث انعطافة الإهداء بليغة المقصد إلى كل المنطوين المنعزلين إلى أولئك الخائفين من الذات و الآخر و الغيب و الموت و الحب، و التاركين حبل الحياة يتقلب كيف شاء !!
كان لابد من هذه الإشارات المتناثرة لأنه بكل صدق و عرفان و اعترافا بقدرة الدكتورة مريم الموسوي على إبداع و رسم لوحات أدبية مميزة توحي بمدى صدق إنسانيتها و نقاء سريرتها في إيصال المعنى الجميل و المثير لدفائن الخير و الأمل و الوفاء و ما هنالك من معاني السلام و العز و الإنسانية من خلال إسقاطات معمقة و دقيقة للواقع بلغة حية راقية تنهض بالوعي الذاتي و الجمعي ، إلى حد اليوم تشرفت بمطالعة كل نتاج أختي الدكتورة مريم فوجدت التنوع في التعبير يعكس اهتمام سوسيو-ثقافي راق يهفو لبعث ثقافة إنسانية جديدة و متفتحة على كل حيثات الإنسان في واقعنا العربي، فالعبرة و العظة في أي منتج أدبي أنه يصلح أكثر ما يفسد ، يطبب و يداوي أكثر مما يجرح و يدمي ّ، الأدب هو أساس التربية و علومها و أبوابها و أنساقها و نظرياتها ، الأدب فلسفة فهم قبل كل شيء لأنها تعطي المعنى قيمة منهجية في التغيير و الإصلاح و الإبداع ، لعل الدكتورة تدرك كل حرف و كلمة و جملة و فقرة و عنوان و إشارة و مقابلة و تشبيه و استعارة و اقتباس ، ضرورة تنمية الفكرة الرئيسية العامة حتى يولد الحب من رحم الحزن و الألم و يتألق الأمل و الخير و الثقة و التفاؤل و التسامح ، بعد هذه اللفتة نحاول المرور كعشاق الياسمين بمحطات الرواية مستلهمين قدسية الورد في دين الحب، و لعل كل قارئ حصيف عارف بصعوبة الطريق على من لا غاية له بين أماكن الشوق ( البحر ، الصحراء، المسجد، الطبيعة ككل)في غيبات الصمت الموجعة ، مرتحلا بين القطار و الفرس و السفينة و السيارة ستستمع ألحانا و تشم روائح التبغ و القرنفل و القهوة و الموكا، على قارعة الطريق أو في صالة الفندق أو على مرسى السفن، أو في حديقة المنزل…تستشعر معاني عوالم البرد و الظلمة و النور و الضحك و البكاء و الحزن و الشوق ، العذاب و الصبر ، الفراغ و الوحدة و الغربة ، الغدر و الخوف ، الدفء و الرجولة و الشهامة ، الحزم و السكوت و الغضب ، المستقبل و الحياة …تستلهم مقاصد التواصل والحوار ، النقاش و الجدال ، لتمعن في سر الصوت و ألحانه و حنانه ، فلسفة الجمال و تفاصيلها وأي جمال تريد؟ ! وثقافات الإحساس و الإنصات و السؤال..إنه التناقض المفتعل بحماقات البشر و تراجيديا المتاهات و الاغتراب…
تبدأ قصة ياسمين لتفجر دقائق المسكوت عنه و غير المقدس و الكبت الممنهج و النفاق المقنن و الاجتماع المبتذل المقدس، لقاء إنساني في زمن موحش و مكان استقطب المحارم رغم طهور الأرض ، سفر كالسفر الأول في الوجود ، من يكون آدم و حواء، و هل يعرف أحدهما الآخر؟؟
أليست ظاهر من الحياة الدنيا ملامحنا و صورنا و في أحشائنا عوالم عجيبة، إنها النفس تتقلب تقلب الوحوش في البرية و تلاطم الأمواج في البحر: السعي وراء المال، المشاعر، الأحاسيس ، الأماني، الأفكار ، المعاني ، الأفهام ، الأنساق ، الألوان ، الإقامة ، العودة ، السكن ، الهروب ، الذكريات، الإهتمامات ، التطلعات ، الانتكاسات، الأنغام و الألحان و الصمت !! الزوج (ة)، الصديق (ة) ، الأولاد ، الأصدقاء، الرسالة ، الوطن ، الغربة ، الأم و الأب ، الجغرافيا (السهول، الجزيرة ، الهواء، الماء …)، السياسة ، الدين ، العادات ، الأجيال ، السلوكيات ، الضيافة، الطعام، السمك ، المعادن الثمينة ، الهندسة ، المصالح و الشيطان ، الرسم و الفن، زهرة الأوركيد ، الأسنان –الابتسامة، الحضن و الفراق ، الرمل و السنونوات ، المنزل و الكوخ ، الزوجين الصديقين ، الملائكة و البشر، الحب و الإفصاح، الخير و الشر… !!!
ثنائيات تغدق عليك بالمعنى الرحب للحياة بكل تعقيداتها و رونق تقلباتها و صورها حيث تتصدر القضية حواء لتسرد كل عنفوان وجودها و تقفز بين سطور الزمن لتكتب رسائل النور و الخلاص متجاوزة كل مقاصد الهون و الاهانة و الخيانة (قصة أريج و إبراهيم أم محنة الحب القاتلة) و الاغتراب و العذاب و الشعر ، حيث يحضر فاروق جويدة بمعادلاته الشعرية الرائعة، ثم تتفاضل لدى الراوي معان صاخبة كالاستسلام و البوح و المتاعب وجنون الارتياب و الخداع و الهروب من خلال قصة ياسمين حيث العودة من جديد لفك شفرة الحب مع فابيو فيلسوف السماء و الاستنجاد بطبيب نفساني يقارب بين سلسلة الّألب و النفس البشرية، و هكذا تنتهي الرحلة مع الراوي ليستنطق إبراهيم ، و يجرد ذكرياته المؤلمة و يرتب المعنى بين عطر فاتنة و المؤامرة التي حيكت ضده ليستقر به المقام في حلم التأنيب، فيفيق منه باحثا عن خاتم ياسمين !!
يستمر الرثاء المبني للمجهول ، بين معالم الشتات و جنون الارتياب ، صور الحب كثيرة بل هي بعدد الأنفس، جامعها أنها صراع لا ينتهي بين الذات و التحرر من الآخر..شكرا أختنا الدكتورة مريم على هذه القصيدة النثرية البليغة الأثر ، لقد استطعت بإلهامك الثقافي أن تنفض الغبار عن المسكوت أو اللامفكر فيه لدى إنساننا العربي في عمق حياته و كل هذا لعله صميم محنة انساننا (آدم وحواء)..بكلمة كان رثاءا مؤنسا معلما منبها صادقا يرنو لمشاورة القارئ لعل جنون الارتياب يغادر واقعنا العليل بخيبات الحب اليومية و آلام الغربة الأصلية ..وينعم الإنسان العربي بوطنه الصغير و الكبير بلا شتات ..