الكاتب: صالح البلوشي
الفلسفة كلمةٌ مشتقةٌ من اليونانية، وتعني محبة الحكمة، ولذلك يوصف الفيلسوف بأنه صديق الحكمة، وأصل الفلسفة كما قال أفلاطون وأرسطو هو الدهشة، حيث يقول أرسطو: “لقد أتاحت الدهشة للإنسان قديما، كما حديثا أن يتفلسف.. والذي يدهش ويسأل إنما يشعر بالخجل.. حتى يتحاشى الإنسان الجهل بدأ بالتفلسف”، ويقول أيضا عن التفكير الفلسفي: “أنه يرتبط بماهية الإنسان التي تجعله يرغب بطبيعته في المعرفة”.
والفلسفة ليست كما يتصور البعض مجرد حفظ مصطلحات فلسفية معقدة أو قراءة سيرة الفلاسفة الكبار، والاطلاع على كتبها، وإنما يتجاوز ذلك إلى التفكير الواقعي، الذي يقوم على البرهان العقلي في قراءة الأشياء بعيدا عن العاطفة أو التأثير الأيديولوجي أو الديني أو السياسي، ولذلك غالبا ما تتعارض رؤية الفيلسوف للظواهر والأشياء عن رؤية بقية الناس لها؛ فالفيلسوف لا ينظر إلى الأحداث حسب ظواهرها التي تبدو على السطح كما يراها جميع الناس، وإنما يتعمّق لمحاولة الكشف عن بواطنها، عن طريق معرفة نشأتها وجذورها، فالفكر الفلسفي – مثلا – لا يؤمن بالخرافات والأوهام التي تنتشر غالبا في المجتمعات النامية والمتخلفة، ومن يقرأ تاريخ الفلسفة ابتداء من عصر الفلاسفة اليونانيين الكبار: كسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وغيرهم، ومرورا بفلاسفة عصر التنوير إلى الفلاسفة في العصر الحديث؛ يجد أن الفلاسفة لعبوا دورًا كبيرًا في يقظة الشعوب من أشكال الجهل والخرافات والشعوذة المختلفة، التي كثيرا ما مُورست بعناوين دينية، بل دفع كثير منهم ثمنًا باهضًا لذلك، مثل: سقراط، الذي حُكم عليه بالإعدام، وتعرض كثير منهم للتكفير والملاحقة كسبينوزا، الذي تبرأت منه عائلته والسلطة الدينية اليهودية الذي كان ينتمي إليها وعدّته مارقًا عن الدين وجاحدًا للشريعة، ولكن جهود وتضحيات هؤلاء الفلاسفة لم تذهب هباءً منثورا بل تُوّجت بعصر التنوير، الذي شهد تراجع الأفكار الخرافية والمتطرفة، التي سقطت وتهاوت أمام سلطة العقل ومطارق النور.
يقول أندريه كونت سبونفيل – أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون: “إن الفلسفة تحديدا هي أن نفكر بأنفسنا، وبشكل ذاتي مستقل عن كل المسلمات المسبقة، سواء أكانت ذات طبيعة لاهوتية غيبية أم تحزبية سياسية ضيقة، لكننا لا نستطيع التوصّل إلى هذه المرحلة إلا إذا اعتمدنا على فكر الآخرين، وخاصة كبار فلاسفة الماضي، فالفلسفة ليست فقط مغامرة في المجهول، وإنما هي أيضا جهد وعمل، وقراءات كثيرة وصبر”، ويقول الفيلسوف الإنجليزي جون كوتنغهام في إجابة على سؤال لمجلة “كوجيطو” الفلسفية الشهيرة، عن الأسباب التي جذبته إلى دراسة الفلسفة: “قبل أن أذهب إلى الجامعة كنت مهتما بذاك النوع من الأسئلة التي يستبد بالمراهقين أيما استبداد، تلك الأسئلة الكبرى الدائرة على معنى الحياة.. فما جذبني في الفلسفة دوما إنما هو سعة أفقها، والطريقة التي تربط بها المسائل بالعلوم الحقة وبالعلوم الإنسانية، لقد سعى الفلاسفة دوما إلى توفير نظرة واسعة عن كيف تترابط الأشياء فيما بينها، أو تتصادم فيما بينها مثلا، في العلاقة بين العلم والأخلاق أو بين العلم والدين، هي ذي نظرة الفلسفة الإجمالية التي تجعلها أكثر جاذبية لي من أي مواضيع تخصصية ضيقة”.
ومن المزايا التي تتميز بها الفلسفة أهمية السؤال وقيمته المعرفية، والذي يعدّ أهم من الأجوبة، فالسؤال في التفكير الفلسفي لا يهدف إلى البحث عن الأجوبة النهائية كحقيقة مطلقة مثل كثير من العلوم الأخرى، وإنما إلى إثارة الإشكالات المعرفية، ولذلك هناك من يعدّ الفلسفة نوعًا من العبث والترف الفكري ولا فائدة ترجى من تعلمها؛ ولكن الواقع أن الأسئلة في حد ذاتها تفتح أمام الباحث عوالم معرفية متجددة، وهذا هو هدف الفلسفة.
ومن فوائد التفكير الفلسفي أيضا تعلم مبدأ الشكّ كأحد الطرق للبحث عن الحقيقة، يقول المفكر السعودي عبدالله القصيمي عن أهمية الشك في كتابه: (الكون يحكم ضميره): “إن الشك هو شباب الحياة وطاقتها المتحركة، بل إن الشك هو الحياة لأن الموتى لا يشكون، ومهما طويت من الأعوام في حساب حياتك فلن يقتل ذلك عقلك أو يضعف حركته وتطلعه بلهفة إلى الآفاق البعيدة والواسعة والمجهولة ما دام حارا وجاريا بعمليات التجديد التي يدخلها على بنائه“.
ونظرا إلى أهمية الفلسفة والتفكير الفلسفي لدى المجتمعات الأوروبية؛ فقد شهدت القارة العجوز ظاهرة بدأت بالانتشار من عام 1992، وهي المقاهي الفلسفية، التي ابتدأت بسؤالٍ عارضٍ طُرح في أحد المقاهي، عن ظاهرة العنف، وهل هي تختص بالإنسان فقط دون غيره من الكائنات؟ “، وكان الفيلسوف الفرنسي مارك سوتيه (1947 – 1998) أحد الذين أسهموا في نشر هذه الفكرة وألّف في ذلك كتابه (قهوة لسقراط). وبالإضافة إلى المقاهي الفلسفية تنتشر في أوروبا أيضا العيادات الفلسفية، التي تشهد نموًا متصاعدًا، وتختص بمعالجة المشكلات الفلسفية، على ضوء المدارس الفلسفية المختلفة والعلوم الأخرى.
*تم نشر هذا المقال سابقا في جريدة ” الرؤية ” العمانية، وقمت بإعادة نشره بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة الذي تحتفي به جامعة السلطان قابوس ومجلة شرق غرب الفكرية غداً الأربعاء.