سعاد بنت علي العريمية
“وستبقى مسيرة النور مستمرة إلى أن تضيء مناطق لم تسمع آمنة بوجودها، لا أتحدث عن قارات ومدن لم تسمع بها، بل عن النور يتوغل في مجاهل النفس البشرية، يضيء حياة آخرين ولدوا بعد قرون مما رأته السيدة آمنة، يجدون أنفسهم في حياته -عليه الصلاة والسلام- في كلمة قالها أو موقف له، في دعاء وقت شدة أو في تسبيحة ذكر قالها وقت رخاء”، هذا مقتطف من كتاب السيرة مستمرة لأحمد خيري العمري.
يأتي هذا الكتاب “السيرة مستمرة” ليضيء مواطن وأحداث في سيرة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الإنسان، ويقربنا من شخصه الكريم بأسلوب عقلاني بعيدا عن التسليم بمصداقية جميع ما رُوي في كتب السيرة.
وفي هذا الكتاب، يمحص العمري أهم الأحداث في السيرة النبوية بمكة متتبعا لها بتسلسل زمني دقيق، حيث بدأ بعرض القبائل القرشية ونسب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم عرج على حادثة الفيل، والتي حدثت قبل ولادته وأعطت دليلا على أهمية الكعبة وضاعفت من مكانة مكة ودللت على وجود حماية ربانية لها.
ويدخلنا “العمري” في تفاصيل حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما فيها من أحداث ومشاعر ودلالات، بشكل يقترب من أن تكون فيلما إنسانيا ثلاثي الأبعاد، نشعر بأننا جزء منه، نقترب من مشاعر رسولنا الكريم في كل حدث وموقف وما يدور حوله.
الولادة والطفولة
يبدأ الكاتب في حياة الرسول وهو جنين في بطن أمه السيدة آمنة بنت وهب، التي فقدت زوجها بعد ستة أشهر من زواجهما ثم ولادته، ودحض “العمري” حادثة انصداع إيوان كسرى في هذا اليوم وانطفاء نار المجوس، فذكر أنها كانت ليلة زاد فيها حزن أمه آمنة على يتم ابنها من أول يوم في حياته.
ويعطي الكاتب سببين لعدم مكثه مع أمه بعد لحظة ولادته، وهما: “إما اعتلال في صحتها أو انتشار وباء في مكة بعد حادثة الفيل”، مؤكدا أن أحد هذين السببين أجبر آمنة على نقل ابنها لمضارب بني سعد مع مرضعته حليمة السعدية.
لقد كاد قلب آمنة أن ينفطر على صغيرها اليتيم الذي ابتعد عنها، ليعيش سيدنا محمد في مضارب بني سعد المنطقة الجبلية البعيدة عن صخب المدن المكتظة بالناس والتجارة مثل مكة، لمدة 4 سنوات هي الأولى من عمره.
ويصف الكاتب حجم الصدع الذي حدث في نفس محمد عندما انتقل بعدها لأمه الحقيقية آمنة، وكيف أن حليمة وعائلتها ليسوا هم عائلته الحقيقية، ولكن طفلا في عمره لا يستطيع أن يعبر عن هذا الألم.
ويستند الكاتب على ثقافته في علم النفس، ويدعم كل جولاته بنا في حياة سيدنا محمد بالكثير من الحقائق، فيقول عن لحظة الوداع هذه بين سيدنا محمد وأمه حليمة وعائلتها:
“لا نعرف إن كان الطفل محمد يعي تماما خلال الرحلة أنه مفارق الحضن الذي أشعره بالحنان، لكنه أدرك ذلك حتما بينما حليمة تودعه، الأطفال حساسون عادة ويفهمون تحديدا الأشياء التي يحاول الكبار إخفاءها”صـ56.
ويصف مشاعر أمه آمنه في هذه اللحظة، وأنه ظل في كنف أمه آمنة لعامين لم يذكر سوى رقتها، ثم فقدها في السادسة من عمره عندما توفيت في الأبواء بالقرب من المكان الذي دفن به والده عبدالله بن عبدالمطلب، وكيف أنه انفجر بالبكاء عندما وصل الخمسين من عمره وقت أن زار قبر أمه، فقد سمح له الله بذلك، فبكى النبي بكاء مريرا.
وبعد سن السادسة تكفل برعايته جده عبدالمطلب سيد القوم وصاحب اتفاق الإيلاف الذي ازدهرت بعده التجارة في مكة سواء رحلة الشتاء إلى اليمن أو رحلة الصيف إلى الشام.
وبعد وفاة الجد، تكفل برعايته عمه أبو طالب، الذي أتصف بأنه الحنون الرقيق على ابن أخيه، والذي تتضاد شخصيته مع شخصية عمه أبو لهب القوي الشديد، كل هذه التناقضات في الشخصيات من حوله علمته دروس في السلوك البشري، ومنحته شخصية راقية أهّلته للنبوة.
كما ساعدت مهنة الرعي التي مارسها سيدنا محمد -مضطرا لمساعدة عمه أبو طالب في إعانة أسرته- على التأمل في هذا الكون، والتعامل مع المواقف اليومية للشخصيات من حوله، مكتشفا نقاط القوة والضعف في كل شخص، فأخذ بالنور في كل شخص وهذبه، فخرج لنا بأعظم شخصية عاشت على وجه الأرض فهو الذي وصفه الله فيما بعد فقال: “وإنك لعلي خلق عظيم”.
شباب النبي
ثم تتبع “العمري” فترة شباب الرسول صلى الله عليه وسلم واتصافه بصفة الصدق والأمانة، وكيف أنه كان بعيدا عن كل ما يمت للوثنية بصلة، فترفّع عن أوثانهم وخمرهم وعاداتهم الظالمة لبعض فئات المجتمع، فكان عادلا في معاملاته، لذا طلبته خديجة بنت خويلد ليتولى أمر تجارتها ثم ليكون رب أسرتها، فكان قدره مع خديجة بداية لمرحلة جديدة من النضج، فلمت شعث اليتم في قلب سيدنا محمد وأضاءت جوانب كثيرة في حياته، وكانت أما لعياله والوتد الذي أقامه في حادثة اللقاء الأول له بجبريل، عاكسة كل الأنوار التي بحياته على مرآة ذاته: “أبشر، والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق”.
كانت خديجة أول من آمن به رسولا لرب السماء، فحملته لابن عمها ورقة بن نوفل الذي قال له: “هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” أومخرجي هم؟!، قال له: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي”، فبهذا ثبّتت خديجة محمد وبثت في نفسه الطمأنينة، فتتابع نزول وحي السماء عليه.
وهنا يتتبّع الكاتب التسلسل الزمني لكل السور المكية مبينا دور كل سورة في تثبيت سيدنا محمد في دعوته لعبادة الله وحده ونبذ الأوثان، بدأ من سورة العلق ثم القلم فالمزمل والمدثر والفاتحة والمسد والتكوير والأعلى والليل وغيرها من سور مكية، وتتبع مع السور الأحداث المقترنة بها ومفسرا أسباب نزولها، كما تتبع المراحل الصعبة في بداية الدعوة وكيف واجه نبينا محمد كفار قريش ومنهم عمه أبو لهب.
وبعد وفاة عمه أبو طالب الذي كان الداعم له في محيط المجتمع المكي، وفي ذات العام فقد خديجة التي دعمته من الداخل باحتوائها لشخصه الكريم، ونعود مرة أخرى لنؤكد على عمق ثقافة الكاتب في الجانب النفسي، حيث جسّد بين سطور كتابه المشاعر في حياة الرسول وقدرة خديجة على دعمه الدائم وهذه صفة تتمتع بها أغلب النساء، فيذكر معلومة تعزز ذلك “مما أثبتته الدراسات بأن النساء عموما يسجلن نقاطا أعلى من الرجال فيما يعرف بالذكاء الاجتماعي”صـ 320
لقد سرد الكاتب هذا الحدث بكل الألم الذي فيه: “من المؤكد أن البيت كله بدا يتيما مظلما وقد غادرته، الليلة الأولى من بعد كل فقدان تكون صعبة جدا، فكرة أنها كانت تملأ البيت أمس وتبيت الليلة تحت التراب فكرة صعبة يتجرعونها بمرارتها وهم غير مصدقين ويستيقظون فجرا بعد نوم متقطع وهم يتمنون لو أن الأمر كان كابوسا”. صـ 323.
ويحملنا الكاتب مع كل حدث في حياة رسولنا الكريم في مكة بهذا الكم الهائل من المشاعر، لنعيش كل تفاصيلها فتدمع عيوننا كثيرا، ويزداد حبنا لرسولنا الكريم ولنعلم مدى التضحية التي ضحاها لأجل أن يحقق هدفه في نشر دعوته لعبادة الله وحده، وكيف أثرت جميع هذه الأحداث في تقوية شخصيته، ليستند إلى إيمانه بربه ويحرص كل الحرص أن يضيء جوانب روحه بهذا النور السماوي، فينير حياة العالمين من أقصى الأرض لأقصاها.
ومن السنوات الأولى للدعوة يجدّ بالعمل على نشرها في مكة، وقد أبى الكثير منهم أن يدخل في دينه، فبحث بحثا جادا عن موطن يترعرع فيه الدين، ومع هذا البحث يصف لنا الكاتب كل التحديات التي واجهته هو وصحابته، وكيف استطاعوا أن يجدوا الموطن الهادئ لنشر الدين لتكون المدينة المنورة بداية الانطلاقة لمرحلة القوة في الدين الإسلامي.
وينهي الكاتب هذه المسيرة في مكة بآخر حدث فيها وهي الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، وكيف كانت عظيمة بعظمة الصلة العميقة بالله، ليقول لصاحبه وهو في الغار: “ما ظنك باثنين الله ثالثهما”، لتنتهي رحلته مع معاناته في مكة والتي شكلت شخصيته العظيمة، فكانت عروة وثقى وصلة عظمى بينه وبين ربه وربنا ورب كل شيء ومليكه.
وأخيرا.. وأنا أقرا الكتاب وأتجول بين ثناياه بمشاعري مع رسولي الكريم تمنيت أن يستمر الكاتب بالمسيرة؛ ليتطرق إلى سيرة سيد الخلق في المدينة، وتمنيت أن لا أنهي قراءة هذه السيرة لشخص رسولنا الكريم الإنسان، وأدركت حجم تقصيرنا في تتبع سيرة سيدنا محمد، فاللهم ردنا إليك مردا جميلا، وارزقنا محبتك ومحبة رسولنا الكريم.