محمد بن جمعة بن غنيم الرحبي
عزم الزوجان حارب وفطيمه على الارتحال إلى المدينة منذ بداية دخول صيف عام 1991 وارتفاع درجات الحرارة. لم يكن قرار الرحيل قد اتخذ في ليلة وضحاها فقد تشاجر الزوجان فيما بينهما بين شد وجذب وطفقت فطيمة تعرض الأسباب التي تدفعها للرحيل من القرية وعلى رأسها انقطاع أهم مقومات الحياة الحديثة من كهرباء وطريق معبد. حاول حارب أن يلجأ إلى صهريه مفلح وجابر في إقناع أختهما بالبقاء في القرية إلا أن رفضها القاطع والمصحوب بالصراخ أحبط كل محاولة.
بعد صلاة الجمعة من أحد الأسابيع نادى المؤذن بصوت لا يخلو من النحيب وقد أصابه زكام قبلها بيومين :
- الشيخ سالم يدعوكم للغداء باكر السبت والحاضر يعلم الغايب في المجلس الكبير جزاه الله ألف خير.
توافد بعدها أهل القرية إلى مجلس الشيخ سالم والقاطن في أعلى بقعة بالقرية وتحت إحدى الغافات كان سعود ابن الشيخ سالم يستقبل الحضورفلما قدم حارب أمسك الشيخ سالم بيده ودعاه بهمس خفيف على عشاء خاص لأسرة حارب وحدها ،فوافق حارب بسرور وبلا أدنى تردد.
رجع حارب إلى بيته بعد الغداء ونام إلى قبيل غروب الشمس ثم استيقظ مفزوعا ينظر إلى الساعة فقد ظن أن الليل قد حل ثم نادى فطيمة فلم يسمع جوابا. توجه إلى المطبخ مسرعا فرأى فطيمة تعد العشاء: - ويش تسويي يا حرمة نحن معزومين الليلة
- وين معزومين وليش ما خبرتني قبل
- كنت نايم . المهم حطي العشاء في السخانة وتجهزي بعد المغرب نروح لبيت الشيخ سالم
امتقع وجه فطيمة وتركت المطبخ متجهة إلى زريبة الماشية وظن حارب أنها تريد إطعام الماشية قبل أذان المغرب
كان حارب يزين نفسه أمام المرآة بالملابس التي لبسها ظهر الجمعة. نادى فطيمة بصوت عالي فلم تجبه فوجدها متسطحة على العريش تسعل بقوة - مالش فطيمة مو جاش؟
- ما أسمعك
أعاد حارب سؤاله بصوت ثخين - ما أعرف أشوف نفسي أنحب وما أسمع واجد
- لا إله إلا الله هذي أكيد ديصة عسفتش . ما اختارت إلا هذا الوقت ايش أقوله الشيخ، قالها بصوت أعلى.
- قوله فيها حمى ايش بعده تقوله. أخذت تسعل بصورة غير منقطعة
أخذ نفس حارب يتقطع وقال بلهجة سريعة - نزين ويش تاكلي ومن يخدمك
- هنا ولدي خماس ما يقصر روح لحق العرب ينتظروك
حينما سمعت فطيمة صوت إغلاق باب الحوش قفزت وكأن حية لدغتها وأخذت تنادي خماس كي تتأكد بأنه لايزال في المنزل أخذت ابنها واتجهت إلى المطبخ ليتناولا العشاء.
طرق حارب باب بيت الشيخ المكون من طابقين- وكان البيت الوحيد المزود بالكهرباء بفضل “الماطور “- فكان في استقباله سعود وبالغ في ترحيبه وأدخله غرفة الضيوف. جاء الشيخ سالم بهيبته المعتادة وأخذ يصافح حارب بكل حرارة وقدم إليه ألذ أصناف الفواكه وأجود أنواع التمور.كانت الأحاديث أثناء تناول الطعام تدور حول أحوال القرية وقصص الأجداد.
كان وجه حارب تبدو عليه علامات القلق فقد كان خائفا من أن الشيخ سالم قد استعلم بعدم مجيء فطيمة وحينما استأذن الشيخ سالم من حارب أخذت علامات القلق تزول تدريجيا .
بعد العشاء جلس الشيخ سالم وأخذ ينتظر حارب حتى يفرغ من غسل يديه - يا حارب أنا ما عزمتك في بيتي إلا لأني أقدرك وأعزك
- هذا من طيب أصلك الشيخ جزاك الله خير بيت عامر
- سمعت طلاطيش أنك ناوي تنتقل شي منه هذا الكلام
- شي منه الشيخ بس بعده مطولين. بدا لون وجه حارب ييتغير إلى الاحمرار فطلب كوب ماء من سعود وأخذ يترجع الماء بكل تمهل.
- احنا قصرنا معك في شي حارب
- لا الشيخ ما قصرتوا بس الحرمة تقول أنها تعبت من السكنة بدون كهرباء
كان سعود مستمعا جيدا لم يقاطع والده ،قام بجمع بلح التمر وقشور الفواكه ورميها عبر النافذة. - حاشا عليك يا حارب تسمع كلام حرمة أقول خلي عنك هذي الهرجة اللي ما منها فايدة واعقل واجلس عند أهلك وخوتك وهذا ما عذر. كلهم ما عندهم كهرباء ما قالوا بينتقلوا.
هز حارب رأسه وعندما خرج من بيت الشيخ تحولت مشاعر القلق التي كانت تنتابه إلى مشاعر سعادة وفرح وتيقن من أنه خرج من بيت الشيخ وبين يديه مفتاح النصر فاتجه إلى بيته ورأى فطيمة مستغرقة في النوم وخماس نائم بجانبها فحمل خماس وفرش له فراشه بمحاذاته ليتجنب انتقال العدوى.
استيقظت فطيمة الساعة الثانية ليلا فكان الظلام الدامس قد أعماها عن رؤية ابنها فصرخت تنادي ابنها . قام حارب مفزعا من صوت زعيق فطيمة فطمأنها بأن خماس بجانبه ولما اطمأنت خمدت للنوم ولم تستيقظ إلا على رائحة الشاي الممزوج بالزنجبيل.
قدم حارب الشاي لزوجته والتي ما زالت تعاود السعال منذ أن استيقظت من النوم. انتظر حارب الفرصة المناسبة ليطلعها على ما دار ليلة الجمعة إلا أن سعال فطيمة لم يتوقف. خماس فوق العريش يقفز ويكلم نفسه بكلمات أشبه بنغمات مكررة.
توقف سعال فطيمة بعد أن شربت كوبا رابعا فجلس حارب بجانبها وقال: - ما قصر الشيخ البارحة أشهد إنه ما قصر أكرمنا
- ايش يريد منك الشيخ
اعتدل حارب في جلسته بعد أن كان متكئا وأخذ يرشف الشاي دفعة واحدة - الخبر وصله الشيخ
- أي خبر؟ قامت فطيمة وبدا وجهها يشحب
- أي خبر يعني ! نيتنا في الانتقال.
- أكيد ما يخلينا في حالنا ،هذا ما حد غير ولده سعود حرضه علينا ما حد غيره. بدأت فطيمة تسعل قليلا
- كلمة الشيخ ما تنزل وسكّري الموضوع
مع شروق الشمس نهضت فطيمة من على فراشها واختفى السعال وأخذت تسرع الخطوات نحو المطبخ ونادت خماس فتبعها بسرعة فائقة.أيقن حارب بأن ملف الانتقال قد أغلق وباشر نحو الذهاب إلى المزرعة آخذا معه قفيرا ومجزا فيما كانت فطيمة تعمل على تنظيف المطبخ وتلوم حظها التعيس الذي جعلها تعيش في هذه القرية. - سمعته خماس ايش قال أبوك يريدنا نجلس في الحر عشان خاطر الشيخ سالم وولده النذل سعود ما حاسين فينا جالسين على المكيف وعندهم تلفزيون لا يصيبهم لاهوب ولا ساهوب.
بعد أسبوع من ليلة الجمعة وتحديدًا ليلة السبت حضر الشيخ سالم وابنه سعود إلى بيت حارب تلبية لدعوته على العشاء. كان من بين المدعوين مفلح وجابر أخوان فطيمة وكانت القناديل بالكاد أن تضيء. أحضرت الذبائح وسيقت إلى الضيوف وكانت فطيمة منهكة مع أخواتها في إعداد الطعام والشراب.كانت ترتقب تلك الليلة بفارغ الصبر، أعطت تعليماتها قبيل العزيمة بيوم لإخوانها مفلح وجابر وكانت تعكف يوميا على تدريب ولدها فيما ينبغي أن يقوله وأن يفعله.
بعد وجبة العشاء قام خماس ليحضر الشاي السليماني فيما اختفى كل من مفلح وجابر. طلب خماس من سعود أن يأتي لمساعدته في إحضار أكواب الشاي.
لم يقطع الحديث المستمر بين حارب والشيخ سالم غير صوت صراخ طفل فقاما ليطلعا على الأمر ومع صعوبة الرؤية وجدا خماس جالسًا على الأرض يبكي وسعود يحاول تهدئته. - ماله خماس؟
- رد سعود بكل هدوء، ما أعرف ايش فيه يمكن شي أكله!
حمل حارب ابنه وطبطب على كتفيه وسأله عن سبب بكاءه فأشار خماس بإصبعه الصغيرة نحو سعود وبنظرة لا تخلو من الشفقة. وفجأة ظهرا مفلح وجابر من وسط الظلام.
لم تمر تلك الليلة إلا والشيخ سالم يوقع على ورقة غير رسمية بشهادة مفلح وجابر على إدانة ابنه سعود وقام بالاتفاق مع حارب بأن تقتصر العقوبة على سجن سعود في قلعة القرية وتحت إشراف مفلح وجابر بعيدا عن المحاكم القضائية وبعيدا عن أعين الناس. ترك حارب وعائلته القرية وسط تساؤلات أهل القرية وبعدها بسنتين وصلت أعمدة الكهرباء لجميع أهالي القرية استجابة لطلب تمديد كهرباء قدمه الشيخ سالم ومع ذلك لم تعد عائلة حارب.
*الصورة من محرك البحث العالمي (جوجل)