أحمد بن سليمان الكندي
يقول المؤلف الأيرلندي الشهير جورج برنارد شو: “الخيال هو بداية الإبداع، إنك تتخيل ما ترغب فيه، وترغب فيما تتخيله، وأخيرا تصنع ما ترغب فيه”. وتقول الكاتبة نهى الصراف في مقال لها في جريدة العرب الإلكترونية : “أن الإنسان يستعين بالخيال لتعويض ما هو مفقود في حياته”. اتصل بي أحد الأصدقاء من دولة أوروبية ليخبرني بأنه قادم إلى سلطنة عمان ضمن مجموعة سياحية؛ لكنه لم يستطع التأكيد لي بأن بوسعه مقابلتي بسبب جدول زيارته المزدحم، وأنه سيتواصل معي لاحقا بحسب ما يسمح به وقته.
أخبرني لاحقا بأنهم وصلوا إلى مطار مسقط، وتم استقبالهم بحفاوة بالغة لم تخلُ منها سمات الضيافة العربية التقليدية معززة بالطابع العماني الخاص والمميز، وما إن خرجوا من المطار حتى استقلوا حافلة فخمة تحمل إسم (عبري)، وهو ذات الاسم للوجهة السياحية التي تعرفوا عليها وشاهدوا معالمها في المكتب السياحي الأوروبي، والتي ستكون محل زيارتهم للسلطنة.
وبالرغم من طول الطريق من مسقط إلى عبري إلا أنهم لم يشعروا به لأنهم كانوا مشغولين داخل الحافلة بمتابعة الفلم الوثائقي عن عمان وعن حضارتها التليدة منذ فجر التاريخ وحتى العصر الحديث، فتعرفوا على تاريخ عمان منذ ما قبل الإسلام مرورا بالعصر الإسلامي وانتهاءا بفترة حكم النباهنة والدولة اليعربية والبوسيعيدية، ويقول أنه أعجب أيما إعجاب بقوة الشخصية العمانية عبر التاريخ، وكيف تجلت هذه الشخصية في بقاء عمان دولة مستقلة في فترات تاريخية طويلة، وليس أدل على ذلك من إصرار العمانيين على مقارعة قوى الاحتلال، ونجاحهم في القرون الأخيرة في بناء امبراطورية واسعة لها ثقلها السياسي والعسكري اقليميا وعالمياً.شاءت الظروف ان التقي بصديقي في اليوم التالي لوصوله فوجدته سعيداً بإقامته في حصن عبري – الذي بناه النباهنة قبل 400 سنة – لأن اقامته هذه جمعت بين رفاهية الفنادق الراقية ورغبته في السكن في النزل التراثية التقليدية ليشتم منها عبق الماضي وشذى التاريخ.
وفيما نحن نحتسي القهوة في صالة الاستقبال بالحصن أخذ صديقي يحدثني عن محل اقامته في حصن عبري وكيف تم تطويعه بمهارة لخدمة القطاع السياحي، ففي فنائه معرض تقليدي يعكس معالم الحياة الاجتماعية في عمان بأنواعها الحضرية والريفية والبدوية، وهو مليء بالمنتجات التقليدية والصناعات الحرفية مما مكنه من أقتناء العديد من منتجات الغزل والنسيج والسعفيات، أما غرف الحصن فقد تم تحويلها بمهارة فائقة لتلبي متطلبات الإقامة الفارهة مع المحافظة على طابعها التراثي، وكم كان سعيدا عندما حضر مشهدا تمثيليا يحاكي برزة الوالي اليومية مع قاضيه وعساكره داخل الحصن، مما ولًد لديه إحساساً حقيقيا بطابع الحياة داخل الحصن في ذلك الوقت.
أخذت صديقي في جولة خارج الحصن، وتمشينا في سوق عبري القريب منه والذي كان زاخرا بالحركة التجارية النشطة، وكان سعيدا وهو يستمع لعرصة المناداة (المزاد ) الخاصة ببيع المواشي والاغنام وبجوارها كبرة السح (التمر)والمنتجات الزراعية المحلية ، كما أعجب بالدّلّالين ( السماسرة ) وهم يطوفون في السوق يحاولون بيع ما لديهم من خناجر وبنادق ومشغولات فضية في جو صاخب، فيما علقت على واجهات الدكاكين الكثير من المشغولات الحرفية، وفي ساحة السوق تجمع العديد من الباعة أمام مركباتهم لبيع المواشي والنوق العمانية .
في طريق عودتنا همس لي صديقي متسائلا : أتعلم يا صديقي ما الأمر الآخر الذي يدفعنا لزيارة بلادكم؟
وقبل أن التفت اليه، قال: إنه النمط الاجتماعي للحياة لديكم، فالحياة في بلادكم لا زالت تزخر بنسبة عالية من نمط العيش الاجتماعي الذي يشترك فيه الفرد مع الجماعة وهو ما نفتقده في مجتمعاتنا الأوربية، ونسعى لروايته في بلادكم، ولا شك أن هذا السوق الصاخب مظهرا واضحا لهذا النمط، قاطعت حديثه قائلا: هذا يعني أنه ليس المعالم المادية هي التي تهتمون بها عند زياراتكم لبلادنا؟
فاجابني نعم بالضبط هذا ما اعنيه يا عزيزي.
وهذا ما جعلني اتسائل لاحقا ما الذي يجب أن نفعله تجاه هذا ونحن نضع خططنا للتسويق السياحي لبلادنا في المستقبل؟
في المساء عدنا إلى الحصن وجلسنا معا في مطبخ الحصن، والذي تم تحويله إلى مطعم راق يقدم خدمات ممتازة تلبي جميع الأذواق. أخبرني صديقي أنه لم يأت إلى عمان بتأثير من دعوتي المتكررة بقدر ما كان بسبب تأثير الترويج السياحي الجذاب، فعندهم لايكاد يخلو مكتب سفر أو شركة سياحية من أدلة مصورة عن السياحة في عمان، مع وجود برامج سياحية مخططة بعناية ومعززة بمواقع الكترونية فيه كل التفاصيل، وكل هذا بأسعار معقولة تجعل من قرار التمتع باجازه في عمان أمرا مرغوبا وضمن الخيارات المطروحة دائما.
غافلته وهو يتناول عشاءه، وتصفحت برنامجه السياحي لولاية عبري؛ لاحظت خلو البرنامج من زيارة المرصد الفلكي السياحي الذي افتتح قريبا في أعلى جبل السراة بعبري فما كان مني إلا أن أخذته إلى هناك وصعدنا إلى موقع المرصد باستخدام التلفريك الذي ينطلق من منتزه طبيعي وسط اشجار السمو والغاف ويحلق صاعدا نحو احد سلاسل الجبل الاخضر، وهناك أمضينا الليل كله ونحن نراقب النجوم والكواكب. في مساء اليوم التالي أرسل لي صديقي عبر الواتساب صورا لزيارتهم لمدافن بات الأثرية والمسجلة ضمن قائمة التراث العالمي والتي يعود عمرها إلى 3000 عام قبل الميلاد، وأخبرني كيف قضو الوقت كله وهم معجبون بتلك الصروح التاريخية التي تحكي عراقة الأرض العمانية وأن عمان كانت مستوطنة بشرية منذ أقدم العصور، وواصل حواره معي بقوله أنه وبالرغم من ارتفاع درجة الحرارة إلا أن المكانة التاريخية للموقع وتوفر جميع المرافق والخدمات السياحية المتكاملة تجعلك مصرا على المكوث لأطول وقت ممكن لتروي ضمأك للمعرفة وتلبي شغفك للاكتشاف.
في اليوم التالي كان صديقي على موعد ومعه مجموعته السياحية لقضاء يوما ريفيا تحت أشجار النخيل، وقد أخبرني لاحقا كم كان يوما رائعا اذ تمت استضافتهم في إحدى المزارع الخاصة، وكيف أنهم استمتعوا بوجبة الشواء العماني الرائعة و طعم العسل العماني مع خبز الرخال ولحم الجمال المقلي، وحدثني عن هذه المزرعة بأنها كانت مهيأة تماما لاستقبال الأفواج السياحية واحتوت على شاليهات وأحواض سباحة وألعاب للأطفال ، وقد أتيح لهم تجربة الملابس العمانية التقليدية وأخذوا صورا رائعة وهم يلبسونها ، كما أتيح لهم امتطاء الخيول العربية الاصيلة وركوب الجمال، .كما شاهدوا دروسا عملية عن كيفية تعامل الانسان العماني مع النخلة من خلال عمليات التنبيت والحدار والجداد وتعبئة وتغليف التمور وهو ما يعكس ارتباط الانسان العماني بالنخلة ارتباطا وثيقا وقديما.
في اليوم التالي كان لصديقي زيارة للمركز السياحي في عبري، هذا المركز الذي تديره إحدى الشركات الخاصة، والذي يتضمن فندقا أنيقا ومتحفا أثريا ومعرضا لكل ما تود أن تراه في عبري الواعدة حيث احتوي المركز على احصائيات شاملة عن كل ما يتعلق بمحافظة الظاهرة.
يقول صديقي: وصلنا المركز في الصباح الباكر وتناولنا فطورنا في مطعم الفندق، وبعد الفطور بدأ جدول الزيارة ، فدخلنا قاعة تتوفر فيها أجهزة العرض الإلكتروني المدعوم بتقنيات الواقع الافتراض المعزز وإذ بنا نتجول في حصون عبري الواحد تلو الآخر من خلال عالم افتراضي يحاكي الواقع ويجعلك تعيش تاريخ تلك الحصون العريقة، فرأينا حصن عبري وجامعه المهيب الذي يعد بناءاً من الطراز الأول بما فيه هندسة عجيبة في سقفه الذي بني بالحصى المشدود وهو يعتبر من التحف المعمارية الفريدة في المنطقة، ثم انتقلنا إلى حصن السليف الذي بنى على سفح جبل يطل على وادي السليف ويتميز هذا الحصن بأبراجه السبعه وبسوره الكبير الذي يحيط به من جميع الجهات، ثم دخلنا إلى حصن العينين والذي هو عبارة عن مبنى دفاعي محصن مكون من طابقين.
لم يشأ صديقي أن يكمل حديثه عن الحصون الأخرى فأحب أن يعبر عن رأيه فيما رآه بقوله : بقدر ما كان هذا العرض الإفتراضي رائعا وغزيرا بالمعلومات المفيدة بقدر ما ولّد فينا رغبة جامحة في زيارة هذه المعالم على أرض الواقع لذلك كنا على أحر من الجمر ليأتي اليوم المحدد في برنامجنا السياحي لزيارة هذه الحصون المنيفة.
داخل المركز السياحي بولاية عبري شاهد صديقي خارطة جغرافية طبيعية مجسمة للولاية ظهرت فيها معالمها الطبيعية والتجمعات السكانية والأقاليم الزراعية كما تضمنت الخارطة نموذجاً لشلالات جبل الكور وصورا للتكوينات الجيولوجية في وادي بات ومخططا لمسارات الأفلاج، وتحديداً جغرافيا لمناطق حقول النفط، والأسواق والجوامع والشوارع التي تربط القرى بعضها ببعض، وحوى المركز متحفا للطيور والحيوانات البرية التي تعيش في البيئات المختلفة بالولاية، وكان عرض الفنون الشعبية له وقع جميل، حيث شاهد صديقي عروضا مسجلة لفن العيالة والويلية والغازي والميدان وزفة العروس، وللمشغولات والصناعة الفخارية والنسيج والسعفيات ودباغة الجلود معرضها الخاص الذي يحكي حقبة من الفن العماني العريق، كما شاهد شرحا واقعيا لصناعة الحلوى العمانية وتربية نحل العسل العماني، وتعلم كيفية صناعة الصاروج العماني المادة الخام لبناء معالم الحضارة العمانية في مختلف العصور.
لاحقا التقيت بصديقي في قاعة المغادرين بمطار مسقط الدولي وبلغة لا أتهمه فيها بالمجاملة أكد لي بأن زيارته لولاية عبري كانت رائعة بكل المقاييس وأنه سيكرر زيارته لسلطنة عمان بدون أي تردد وسيخبر جميع أصدقائه وأفراد عائلته عما شاهده وعاشه خلال رحلته القصيرة، وأردف قائلا : بلادكم رائعة، وروعتها قائمة على تنوع ثقافاتها، وقدرتها على تلبية مختلف أطياف السائحين، فالباحثون عن الطبيعة والاسترخاء سيجدون فيها أجمل الأماكن، والراغبون في المعرفة والاستكشاف سيجدون هنا الكثير من المعالم التي تشبع نهمهم ورغبتهم، ومن ينشد المغامرة والتجربة يجد مبتغاه في مناطق عدة ، ومن يهوى الجبال والمرتفعات سيستمتع برياضة تسلق قمم سلاسل الجبل الاخضر ، ومن يرغب في الصيد والغوص فأمامه بحر واسع وشواطئ ممتدة .
ودعت صديقي وأنا فخور بما أنجزته الحكومة في القطاع السياحي، واتخذت من حديثه دليلا على نجاح سياسة الحكومة في الاهتمام بهذا القطاع ليؤدي دوره في تعزيز ناتج الدخل القومي للسلطنة وتنويع مصادر الدخل والتقليل من الاعتماد على النفط، واستعرضت في عجالة جهود الحكومة وتشجيعها للاستثمار في هذا المجال حتى باتت الكثير من المرافق السياحية في بلادنا تديرها شركات خاصة وتؤدي دورا مهما في تشغيل نسبة جيدة من القوى العاملة الوطنية المؤهلة.
لم تمض فترة طويلة حتى تواصل معي صديقي موضحاً أنه سيزور السلطنة مرة أخرى في السنة القادمة وهذه المرة سيقيم في فندق قلعة الرستاق وأن برنامجه سيتضمن زيارة القلاع القريبة منها كقلعة نخل وحصن الحزم ، وذكر لي أن صديقه الذي يهوى تسلق الجبال تواصل مع جمعية خاصة في السلطنة، وذلك للتخطيط لتسلق أعلى قمة في جبال مسندم، بينما صديقه الآخر سيأتي مع عائلته في رحلة استجمام وسيقيم في فندق سد وادي ضيقة الفخم، وسيكتفي بالاسترخاء والنظر إلى بحيرته الرائعة وركوب القوارب فيها، بالإضافة إلى رحلات صيد السمك على شواطئ قريات والخيران والسيفة وفنس وضباب .