الكاتب: خالد محمد عبده
صورة السيد المسيح في أدبيات التصوف صورة للصوفي السائح في الأرض، لا يحمل معه سوى روحه ويرحل عن كل ما حوله، تاركًا خلفه كل شيء، يترك الصخب والكلام والناس ويجدد سُنّة الصوم للرحمن، يحمل معه مشطًا ليسرح شعره، وزجاجة صغيرة من الماء، تتنزّل عليه الحِكم وتطيعه الوحوش، ويعرف منطق الطير، ويصل إلى سر الأسرار.
الرحلة والسياحة في الأرض أمر هام يعيد تشكيل حياة الإنسان، الرحلة من كون إلى كون في الأصل لا تقتضي أن يغادر الإنسان وطنه ما دام لا يملك الأسباب لذلك، رحل بعض الصوفية وطافوا جميع البلاد وأجسادهم في بقعة معينة، لكن أرواحهم كانت تطوف كطير خفيف لا تحجبه حدود ولا تزعجه مسافات، ومن هنا أُثِرَ عن بعضهم أنه من (أهل الخطوة)، وقد سجّلت كتب الطبقات التي تعنى بتاريخ الأولياء لقاءات بين وليّ وأحد من أنكروا عليه طيّه للمسافات، من ذلك ما يُروى عن سيدي أحمد البدوي -كان ولا يزال مقامه المكاني في طنطا إحدى محافظات مصر- أنكر عليه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد -قاضي القضاة بالديار المصرية- بعض أفعاله وأحواله، فدفعه دفعة فوجد نفسه في جزيرة واسعة لم يعلم لها طولا ولا عرضا، فأقبل يلوم نفسه ويعاتبها وهو ذاهل العقل غائب عن الصواب.. حتى التقى في تلك الجزيرة بسيدنا الخضر -عليه السلام- فنصحه بالتعلق بسيدي أحمد البدوي، وسيأتي بعد قليل ليصلي العصر هنا! فأتى وصلى.. ثم تعلّق الشيخ ابن دقيق العيد بأذياله وكشف رأسه وجعل يقبل يديه ورجليه ويبكي ويستغفر ويعتذر، فأقبل عليه سيدي أحمد البدوي، وقال له: “ارجع عما كنت فيه ولا تعد إلى مثله”، فقال له: “السمع والطاعة يا سيدي”، فدفعه الشيخ دفعة لطيفة وقال: “اذهب إلى بيتك فإن عيالك في انتظارك”، قيل فلم يشعر ابن دقيق العيد بنفسه إلا وهو واقف بباب داره بمصر، فأقام مدة ببيته لا يخرج منه لما جرى له مع سيدي أحمد البدوي!
بعض الأفلام السينمائية في الغرب تجسّد مثل هذه الصور الانتقالية بالجسد، وتصنف ضمن فئة (الخيال العلمي)، حينما نقرأ خبرًا كالخبر السابق تتداعى إلى أذهاننا صورًا شتّى مما شاهدنا ونحاول أن نعيد رسم المشهد، فالشيخ يصلي الفجر في مكة والعصر في القدس والمغرب في جزيرة لا حدّ لها ويلتقي بأنبياء وأولياء يأمهم في الصلاة ويحرر السجناء، يقهر كل شيء، ويؤمن محبّوه أنه قادرٌ على فعل كل شيء!
(2)
“Into the wild” فيلم سينمائي، يجسّد قصة حقيقية كان بطلها إنسانٌ اختار أن يقطع مع كل ما فات ويعيش على الطريق على الهوامش. أن تصل إلى قرار بفراق كل مألوف والبحث عن ذاتك وعما يشبهها في الطبيعة قرار فيه مخاطرة وجرأة لا يوافقك الكثيرون عليه، ففيه تحدٍ للمجتمع بعاداته الموروثة، وفيه غربة ووحشة تحتاج إلى قوة تجعلك تتحمل تبعات هذا الاختيار الصعب، قد تشرف على الهلاك ويأكل الآخرون لحمك بكلماتهم ويسفّهون اختيارك، لكنك تمضي في الطريق وتتحقق إن أغلقت أذنك عن سماع حروفهم.
لا يُعدُّ مقبولاً في الطريق الصوفي السفر دون مرشد، والذّكر بدون شيخ، والتحقق بدون صحبة، فمن مواريث الصوفية أن من لا شيخ له فالشيطان شيخه، وقد نهوا عن سلوك الطريق سلوكًا فرديًّا لخطورة ذلك على المريد، فلا بد للمريد أن يلتحق بطريقة وأن يتلقّى أصول الطريقة على يد وسيط لديه خبرة صوفية من خلالها يبلّغ المريد ميلادًا جديدًا.
لكننا بالفعل نعيشُ في مرحلة مختلفة من مراحل التّصوفِ، يمكن توصيفها بـ(أرحب من الطُّرقية) أو (ما بعد الطُّرقية) ينبغي أن يهتم بها الدّارسون والباحثون، الذين يعتبرون أنفسهم مختصّين في هذا الحقل، كما ينبغي على أهل الطّرق أو من صحّ توجّهه وقصده منهم أن يتفهّموا هذا اللون الصوفيّ الذي أضحى منتشرًا، فبعد أن كانت البلدان العربة أو الإسلامية هي التي تصدّر التصوف، أصبح أهلها وبخاصة الشباب منجذبين إلى التصوف الناطق بلغات أعجمية، وإن نطق بالعربية فبروح أهل الغرب.
هذا اللون الجديد من التّصوف لا يقيم وزنًا للعصبيات والمسمّيات الطُّرقية، كما لا يعتد بشرائط أهل التصوف الحالية، ولا تنطلي عليه الهالات الصورية التي يصطبغ بها أهل التصوف الكلاسيكي، ولا الأشكال التي يلتزمون بها شكلاً (لا معنى ولا مبنى) من باب إثبات وجودهم وبقائهم في مشهد الحياة.. في عالم لم يعد يعترف بالصورة كما كان تصوّف الأمس الذي نقرأ عنه يمقتُ الصورة ويزهّد الناس فيها لفنائها وللاهتمام بما هو أبقى وأنفع للذات.
يرفض كثيرون اليوم الأنماط الدينية التقليدية، سواء كان ذلك في التصوف أو غيره من أنماط التدين، ويستمدون تجاربهم من ثقافات عدة، لا يكتفون بما ورثوا من معتقدات أو أفكار، بل ينفتحون على ثقافات متعددة، ومن خلال هذا الانفتاح يشاهدون ما يأنسون به، ويعجبون بما حُجب عنهم، هذا السلوك كيف توجهه المتصوفة أو المنخرطين في جماعات دينية تتبع المؤسسات الدينية أو تتشكل خارجها؟ يواجه هذا السلوك في أغلب الأحيان بالسخرية والإنكار والرفض المبالغ فيه، والذي يصل في أحيان كثيرة إلى ممارسة العنف، وخاصة لو كان السالك تحت رعاية والد أو زوج! نادرًا ما يُقابل هذا السلوك بنقاش هادئ أو محاولة للتفهم، وإن حاول بعض الدعاة مناقشته يتم تخوين الداعية والسخرية منه أيضًا.
إن رعاية حقوق الإنسان وقبول أفكاره المختلفة تقتضي الدفاع عن حريته وكرامته وحقّه في الاختلاف، لا التهكّم عليه ممن يُظن أنهم يدعون إلى التسامح وقبول الآخر والإيمان بأن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.