شؤون عمانية
يتداول في وسائل التواصل الاجتماعي قرب وصول جناب السيد جمشيد بن عبدالله آل سعيد، أخر سلاطين دولة البوسعيد في زنجبار للعيش في السلطنة إذ تتوقع بعض المصادر وصوله بعد غدٍ الثلاثاء 15 سبتمبر 2020، فمن هو آخر سلاطين دولة البوسعيد في زنجبار الذي حكم خلال الفترة من 1 يونيو 1963 ـ 12 يناير 1964م”.
يقول المؤرخ عيسى بن ناصر بن عيسى الإسماعيلي في كتابه “زنجبار التّكالب الاستعماري وتجارة الرق” الذي وافته المنية مؤخراً في السلطنة بتاريخ 3 أغسطس المنصرم: أنا والسيد جمشيد لعبنا معاً في الصغر، كنا زملاء العمل في الشباب، وما زلنا معاً حتى الآن في المشيب بالرغم من أنه يعيش في بريطانيا وأنا في عمان، لذا لدى كل الحق أن أقول بأنني أعرفه حق المعرفة، وكما أعرفه، الجبن والخوف ليس من طبعه، كذلك لم يغادر زنجبار خفية أو هرباً.
وأشار ـ رحمه الله ـ الصفحة 116 من مؤلفه “قبل تولي السيد جمشيد العرش كنت أعمل لدى المقيم البريطاني كسكرتير ومعاون للمقيم البريطاني ـ في زنجبار ـ نقلت للعمل هناك بعد أكثر من 10 سنوات خدمة في الإدارة الميدانية كرئيس المديرية، ومن ثم ضابط إقليم في مختلف أنحاء المدن والأرياف لجزيرتي أونجوجا وبمبا، خلال فترة عملي لدى المقيم البريطاني كثيراً ما كنت أجد نفسي وسط كبار أفراد الأنجليز وأفاجأ أحياناً بسماع كلام لا أتوقع نطقه أمامي، وبناء على ما سمعته من الكلام فهمت أن بعض الأوروبيين، خصوصاً بي أي بي روبرتسون كانوا لا يحبون السيد جمشيد غير أن السير جورج مورينج لم يكن يكرهه، لذا فإن بعض الأوروبيين لم يكن يحبذون تولي السيد جمشيد العرش، ربما لأن الجماعة التي كانت تكرهه لم يكن عددها كبيراً غير أن في ذلك الوقت كان الأوروبي هو الأوروبي ولو كان سفيهاً مهزولاً، ولكن كما يقول المثل “هم لهم شأن ولله شؤون”، دارت الأمور حتى عندما جاء وقت تنصيب السيد جمشيد عاهلاً على البلاد، نصبوه مبكراً بيومين أو ثلاثة، وذلك نزولاً على رغبة الشعب ومحبته له، قبل الحصول على إذن الملكة الرسمي من الحكومة البريطانية، فالسيد جمشيد هو الوحيد من بين جميع سلاطين زنجبار الذي نصب مبكراً بدون الانتظار على وصول الإذن من الحكومة البريطانية، ولو لم يتبع ذلك الإذن، لا أعلم ما الذي كان سيجري! كل ذلك إثبات عن مدى محبة شعب زنجبار للسيد جمشيد.
ويضيف المؤرخ “أما السيد جمشيد شخصياً فلم يكن يرغب في تولي العرش، لقد كانت رغبته أن يعيش حياة عادية مثل أي فرد محترم في بلده، لم تكن لديه الرغبة في ذلك إطلاقاً، لقد وصل به أن قال لزعماء البلاد الذين كانوا يحثونه على قبول توليه العرش، أنه كان يود أن ينصب أخاه الأصغر السيد محمد على العرش، غير أنه نظراً لما عرفوا كلا من زعماء البلاد وعامة الشعب عن مدى ما يتميز به السيد جمشيد من احترام وحب عظيمين لوطنه وشعبه، جعلهم يصرّون على التمسك به ليكون هو سلطانهم، وعندما وصلت الأمور إلى هذا الحد لم يكن للسيد جمشيد خياراً سوى الرضوخ نزولاً على رغبة الشعب خشية أن يخيب أملهم”.

ويسرد المؤرخ عيسى الإسماعيلي ـ رحمه الله ـ أربعة أحداث كبيرة حدثت خلال عهد السيد جمشيد إذ قال: أربعة أحداث كبيرة مهمة حدثت خلال ستة أشهر من عهد السيد جمشيد وهي كالتالي:
1 ـ الانتخابات العامة الرابعة بتاريخ 8 يوليو 1963 للتوصل إلى إعلان تاريخ الاستقلال: بتاريخ 24 يونيو 1963م حصلت زنجبار على “الحكم الذاتي الداخلي” وبعده بفترة وجيزة أجريت الانتخابات العامة الرابعة بتاريخ 8 يوليو 1963م التي أعدت لإيصال زنجبار إلى نيل استقلالها والتحرر من الاستعمار البريطاني، وكانت هذه الانتخابات لانتخاب 31 عضواً في الجمعية الوطنية التشريعية، كانت نتيجة تلك الانتخابات كما يلي:
ـ ائتلاف الحزب الوطني وحزب الشعب 18 مقعداً.
ـ حزب أفروشيرازي 13 مقعداً.
بالرغم من عدم خلو الجو من الشكوك والخوف إلا أن هذه الانتخابات جرت بدون شغب، وبالتالي عهد إلى جزبي الوطني والشعب بتأليف الحكومة.
بعد ذلك دعت الحكومة البريطانية قادة جميع الأحزاب السياسية والساسة الآخرين التوجه إلى لندن للتباحث حول دستور الاستقلال، المباحثات التي فشلت في لانكستر هاوس بلندن في شهري مارس ـ إبريل 1962م، لاقت نجاحاً جيداً الآن واتفق جميع المندوبين على أن تعاد لزنجبار استقلالها وحريتها بتاريخ 10 ديسمبر 1963م وهكذا كان.
2 ـ التنازل عن جزء من كيان زنجبار على الشريط الساحلي للقارة إلى كينيا: بناء على اتفاقية 14 يونيو 1890م بين الملكة فكتوريا والسيد علي بن سعيد، فإن كافة الأقطار التابعة لزنجبار آلت تحت حماية الحكومة البريطانية ، ومن بعده تم الاتفاق بناء على المعاهدة المعقودة بين ملكة فكتوريا والسيد حمد بن ثويني في 14 ديسمبر 1895م على أن جميع الأجزاء التابعة لدولة زنجبار ـ ما عدا جزيرتي أونجوجا وبمبا ـ تدار من قبل ضباط الحكومة البريطانية ذلك لأن الأجزاء المعنية كانت في الواقع تدار فعلاً من قبل البريطانيين على أنها تابعة لكينيا تحت اسم محمية زنجبار في كينيا، هذا الجزء هو الشريط الساحلي لكينيا بما فيه ميناء مدينة ممباسا, في خضم ذلك النضال المتعلق بالكفاح من أجل حرية واستقلال زنجبار وخاصة عندما ظهر حتماً دون أدنى شك أو ريب أن على الإنجليز منح زنجبار استقلالها، بادروا بطرح سؤال عن وضع الحالة الأمنية في إقليم زنجبار الواقع على الساحل الكيني، كما رأينا طوال هذه المدة، إن الإقليم كان منذ عام 1890م يدار من قبل الإدارة البريطانية وكأنه جزء من كينيا، كيف يمكن لدولة زنجبار وهي عبارة عن جزيرة صغيرة أن تتمكن من توفير الحماية والأمن اللازمين على تلك المنطقة التي تقع على الضفة الأخرى من بحر زنجبار والتي تلتصق بالعمق الكيني؟ ولو أصرت زنجبار على عدم التنازل عن ذلك الإقليم لوجد الإنجليز المبرر المطلوب والكافي لتطويل أمد المحادثات المطولة أصلاً لزيادة تأخير موعد الاستقلال، الأمر الذي كان الإنجليز يبيتون له من كل طرف، هذا، ولم تكن زنجبار لتنال أي شيء من ذلك لأن الإنجليز كانوا قد اتخذوا قرارهم مسبقاً بأن تؤول تلك المنطقة إلى كينيا، لا ننسى أن عرب شرق إفريقيا قد أصبحوا مكروهين لدى الانجليز بسبب انضمامهم في خوض النضال والكفاح من أجل استقلال زنجبار، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، رغبة الإنجليز في إسعاد أفارقة العمق الكيني بعد تعذيبهم وقتلهم في حرب الماو ماو، لذا كان ذلك بمثابة فرصة سانحة لهم تمكنهم من التملق بأرفارقة العمق الكيني، وإدراكاً لهذا الحال، تشجعت كينيا فقالت جهاراً وبأعلى صوت، أنه إن لم يمنح الشريط الساحلي طواعية فستأخذه غصباً. كان أهالي الشريط أنفسهم يصرون على بقائهم رعايا زنجبار، لكن أكثرية سكان الشريط كانوا من العمق لم يحبذوا ذلك، لذا، حتى لو أجري استفتاء عاماً لإنهزم الأهالي بدون أدنى شك. لذلك إذا ترك ذلك الجزء العزيز من الوطن أن يؤول تابعيته إلى كينيا بناء على اتفاقية موقعة من كل من دنكان سانديز “وزير المستعمرات البريطاني” والسيد جمشيد، وجومو كينياتا، رئيس وزراء كينيا حينها، والشيخ محمد شامتي بتاريخ 8 أكتوبر 1963م، وأصبح ما تبقى لزنجبار الآن جزيرتي أونجوجا وبمبا فقط.
3ـ غزو زنجبار “12 يناير 1964م” : حصلت زنجبار على استقلالها بتاريخ 10 ديسمبر 1963م وتسلمت حكومتها الوطنية ـ المنتخبة ديمقراطياً في الثامن من يوليو عام 1963م استقلالها، وفي 12 يناير عام 1964م تم غزو البلاد والقضاء على تلك الحكومة ولماّ تزل في شهرها الأول.
من الواضح أنه لا يمكن تبرير هذا الغزو على تلك الحكومة بمجرد إلقاء اللوم عليها بهذا الخطأ أو ذاك أو حتى سوء الإدارة، إذ لم تدم تلك الحكومة على السلطة لفترة تكفي لارتكاب الأخطاء تبرر إزالتها أو تدبير الإنقلاب عليها، لا يقف الأمر على ذلك فحسب، بل إن أعضاء مجلس وزراء تلك الحكومة لم يحاولوا الهرب من البلاد وقت الغزو وقيام الإنقلاب على حكومتهم بل ظلوا جميعاً باقين في البلاد حيث زج بهم الانقلابيون في السجن بدون محاكمة.

لم توجه حكومة الانقلاب أي تهمة إلى أي من الوزراء كما لم يقدم أياً منهم أمام محكمة من أي نوع، لا خلال عهد كارومي أو في العهود التي تلته، كل هذا يثبت أن الحكومة الشرعية لم تقترف أي ذنب أو خطأ يبرر تدبير الانقلاب، وليس هذا الانقلاب سوى ضرب من ضروب الظلم والبهتان قامت به فئة من عصابات الإجرام المعتوهين بعد أن فقدت عنصرية حزب أفروشيرازي ومن كان وراءهم الصواب نتيجة لهزيمتهم أمام إرادة واختيار الشعب، هذه هي الحقيقة المجردة لا يمكن دحضها. إنه لمن حق اليقين أن الذي وقع هو ظلم عظيم ويتمثل في قتل الأبرياء وهتك الأعراض ونزع الممتلكات وسجن وتعذيب المواطنين بدون جرم، وللعلم فإن الغالبية العظمى ممن تزعموا هذا العدوان الذي سمي بالانقلاب ليسوا زنجباريين ولم تكن لهم صلة بزنجبار، بل هم عصابات من المرتزقة الأجانب والمجرمين المأجورين من خارج زنجبار، منهم على سبيل المثال : جون أوكيلو من أوغندا، وإنجيني من كينيا، ومفارانيكي من تنجانيقا.
هنا يجدر بنا توجيه السؤال الآتي على أنفسنا، أي شريعة في العالم تجيز حدوث مثل ذلك الانقضاض الانقلابي الذي قامت به تلك الزمرة المكونة غالبيتها من أجانب غير مواطني البلاد على بلد غير بلادهم ولا ينتمون إليه بأي صلة؟ بل الأهم هو أن نسأل أنفسنا بأي حق تم قتل الناس عمداً بدون ذنب؟ غير أنهم لا يتفقون مع حزب سياسي ما. هؤلاء الأجانب بالاشتراك مع أعضاء كل من حزب أفروشيرازي وحزب الأمة، الذين يعرفون أعضاء حزبي الوطني والشعب، أقاموا المجازر بقتل آلاف المواطنين الزنجباريين. رغم استشهاد كثير من الأبرياء في مدينة زنجبار فإن الأرياف قد شهدت عمليات ذبح وتقتيل أوسع بكثير وبالتالي أستشهد فيها أعداداً أكبر غالبيتهم من الشيرازيين من أعضاء حزبي الوطني والأمة.
4 ـ مغادرة السيد جمشيد زنجبار: عندما وصل الحد الذي ارتؤي فيه ضرورة خروج السلطان من البلاد، أوفد إليه أعضاء مجلس الوزراء الشرعيين من حزبي الوطني والشعب مع ساسة البلاد الآخرين مبعوثاً برسالة بأنه وجب عليه الآن أن يغادر زنجبار، المبعوث الذي حمل الرسالة إلى السلطان هو المرحوم حاجي حسين، كان جواب السيد جمشيد للمبعوث أنه لن يخرج ويترك البلاد وأهلها في تلك الحالة الخطرة، وإذا كان ليس للموت بد فيحبذ الموت مع مواطنيه، حاول المرحوم حاجي حسين نصحه كثيراً إلا أن السيد جمشيد أصر على موقفه، أخيراً اضطر حاجي حسين إلى العودة بجواب السلطان جمشيد، ثم بعث إليه رسولاً آخر يحمل رسالة أخرى للمرة الثانية، غير أن هذه المرة أسند المهام إلى رجل اكبر سناً وهو المرحوم الأستاذ هلال بن محمد بن هلال البرواني، وأضيف في الرسالة الثانية هذه المرة القول بأن هذه النصيحة بمغادرة البلاد إنما هو بناء على المصلحة العليا للبلاد والشعب، وعندما وصل الأمر إلى هذا الحد ولكون المبعوث رجلاً وقوراً، وبما أن فحوى الرسالة هو نصحه لمغادرة زنجبار لمصلحة الشعب، فعندئذ وافق أن يغادر، ليس خفية بل جهراً، ركب السفينة مع عائلته وحاشيته رسمياً مع الآخرين من أعوانه في وضح النهار وعلى مشهد ومرء كل من كان هناك في ذلك الوقت، هكذا غادر السيد جمشيد زنجبار رسمياً وملكياً مغادرة الشجعان.