أميرة الشحية
مجد الرجل المعرفة، ومجد المرأة هو التخلي عن المعرفة (مثل برتغالي).
فاضلةٌ هي المرأة التي بلا معرفة (مثل صيني).
جانب النساء من البيت، الجانب الذي بلا معرفة ( مثل بورمي).
الصورة العتيقة للصدام:
نقع كأفرادٍ في مساحة تغييبٍ كبيرةٍ وما أن نعي ذلك، سرعان ما نعيد الصوت إلى حناجرنا، ندفع بالهواء داخلاً ونصمت لنواصل الحياة. اكتشفت احتجاجي الصامت هذا عندما نبهتني أستاذتي الأمريكية ذات الخمس عقود، بسؤالها: أميرة، أتعلمين لماذا أعاني من آلامٍ مزمنةٍ في ظهري؟ لأنني عندما كنت في عمرك كنت أتصرف مثلك. في ذلك الصباح البارد استيقظنا في الخامسة صباحاً قاصدين الموقع الاثري، قمت بسرعةٍ بتحريك أكبر وأثقل صخرةٍ من المبنى الذي ننقبه، لأن صديقي الذي كان يشاركني التنقيب، وعلى مدى ثلاثة أيامٍ متتاليةٍ كان يفضل إزاحتها بنفسه، فيما أنفذ أنا مهام التوثيق، وطبعاً بموافقةٍ ضمنيةٍ من الطرفين. قالت له: لا تدفع أميرة لإثبات شيءٍ لنفسها او لك أو لأيٍ كان. بقدر ما كان ذلك الموقف مضحكاً لكلينا، وقفنا سوياً لنسترجع كل خيارتنا وقراراتنا منذ ولدنا. ونسأل،، كم مرة فعلناها دون وعيٍ؟
في أوقات كثيرة لا تختم قصةٌ كهذه بضحكةٍ، بل بمأساةٍ. يقودنا هذا الفكر الجمعي غالباً نحو خياراتٍ متطرفةٍ ومستفزةٍ ما لم نفهم الصورة كاملةً، خارج الإطارات التي رُسمت حول كينونتنا مسبقاً. لكي نعرف أين بدأ الصدام؛ علينا أن نذهب بعيداً نحو الصورة العتيقة لقصة البشرية، حيث يشير آندريه غوران إلى أن الآيدولوجية الدينية للإنسان العاقل، ارتكزت في جوهرها على جدلية الذكر والأنثى وتكافؤهما. يصعب الكتابة في هذه الجدلية دون نبش تاريخنا البشري المشترك، لنعد إلى أقدم المنحوتات التي أنتجها البشر في العصرالحجري القديم في الجولان بسوريا، عندما عثرعلى تمثالٍ بازلتي لإمرأةٍ ممتلئةٍ مع غيابٍ تامٍ لملامح الوجه. لكل خمسة منحوتاتٍ ذكريةٍ قابلتها مئةُ منحوتةٍ أنثويةٍ خلال فترة العصر الحجري القديم، وأقدم منحوتةٍ تصور الذكر صنعت من عاجٍ يدمج بين شكل إنسانٍ وأسدٍ.
تراجع عدد المنحوتات الأنثوية خلال العصر الحجري الأوسط ليظهرن بشكل الآلهة الأم في العصر الحجري الحديث، وبعددٍ أكبر. كانت ديانة العصر الحجري الحديث المبكرة زراعيةً، وارتكزت على آلهةٍ واحدةٍ وهي الانثى، ومع اكتمال الشكل الاقتصادي، وتقسيم الدور الاجتماعي تظهر الآلهة الأم محتضنةً ابناءها، ومروضةً حيواناتها المفترسة، وتشير السجلات الإثنوغرافية في أجزاء من العالم إلى أن ممارسة عبادة الخصوبة مرتبطة بهذه التماثيل الأنثوية. تنوعت الأشكال بين النماذج الرشيقة والنماذج المشحمة، والتي تظهر في هيئة مبالغةٍ في أحجام الجسد الأنثوي، سُمي هذا النحت بالنحت الفينوسي، وأُطلق مجازاً عليها إشارةً إلى آلهة الحب والخصوبة الرومانية، حيث تميزت ببطنٍ كبيرةٍ وسرةٍ واضحةٍ إشارةً للحمل. عندما ذهب الرجل ليصطاد، وعاد خالي الوفاض، كانت النسوة ينثرن محيط بيوتهن بالبذور، واكتشفت بذلك الزراعة، أذكى ذلك جذوة الغيرة بينهما فرويت أساطير متزامنةٌ عن رجالٍ ينتزعون سر النساء في ثلاث قاراتٍ، سر الخصوبة والحمل. أدى ابتداع الرجال للمحراث وترويضهم للثيران إلى توازنٍ جديدٍ بين الإسهامات الذكورية والأنثوية. بعدها بأربعة آلاف سنة احتاج البشر إلى تسوير مدنهم وأفكارهم، وبالتدريج تغيرت قصة الخلق الأولى، عندما اهتدى الإنسان إلى الكتابة راح يروي أن إلهاً ذكراً خلق الرجل الأول وأتت بعده الأنثى الأولى من جزءٍ ثانويٍ من جسد الرجل. كانت هذه الألواح مصدر إلهامٍ لقصة الزوجين الأولين، آدم وحواء في اليهودية، والمسيحية، والإسلام هي واحدة من أشهر قصص البداية التي ظهرت كتنويعاتٍ لفظيةٍ وبصريةٍ كثيرةٍ حول العالم(1).
إطاراتٌ وصورٌ:
الحياة لوحةٌ كبيرةٌ، نختار أن نرسم إطاراتٍ حول قصصنا الصغيرة فيها، يختار بعضنا أن يرى هذه اللوحة مجتزأةً، بعضنا يفضل أن يقرأ الكلمات التي كتبها أسلافه، آخرون يعمدون نحو قراءة الصور المرئية التي سبقت تكوين الكلمة، أما علماء الآثار فيحفرون الأرض ليفككوا قصة الزمن المتعاقبة، على النقيض من علم التاريخ، لا يؤمن علم الآثار بالكلمة مالم تتخذ شكلاً مادياً. في غياب الفنان القديم الذي أنتجه، تقتضي دراسة الفن الصخري تصنيف اللوحات التي يعثر عليها إلى موضوعاتٍ، بعبارةٍ أخرى، تأطير ما نراه من رموزٍ وتفسيرها بناءاً على خبراتنا السابقة وأطرنا الثقافية. تتحول هذه الموضوعات في بحوث الفن الصخري إلى جداول تصنيفيةٍ تقسم الأشكال البشرية إلى نساءٍ ورجالٍ. في هذا الإطار، اكتشف كلارك عام 1975، لوحةً صخريةً واقعة في وادي السحتن، تصور مجموعةً من النساء، يجلسن على ما يشبه العروش بأجساد نصف عاريةٍ، وفي ترتيبٍ قطري. كما يأتي تصوير الأنثى كملكةٍ على حصاة بني صلت في ولاية الحمراء(2)، وبالعودة إلى أرشيف صور الفن الصخري الذي تركه رودي جاكلي(3)، والذي كان مديراً لشركة تنمية نفط عمان في ثمانينات القرن الماضي، تظهر لوحةٌ صخريةٌ لأمرأةٍ ورجلٍ في حالة عناقٍ في وادي بني خروص، وتعاد نفس هذه الثيمة على أحد بوابات مدافن أم النار في هيلي. كما تظهر وجوهٌ مبرقعةٌ على شواهد القبور الإسلامية بوادي البيح في مسندم. في مقابل هذا العدد الضئيل والفريد من تمثيلات الأنثى، تظهر موضوعات الرجال بكثرةٍ وتنوعٍ هائلين، فهنالك لوحاتٌ تصور صيد الحيوانات من قبل الرجال إضافة إلى مشاهد المحاربين.
يُبنى النظام الاجتماعي المعقد لكل مجموعةٍ بشريةٍ بطريقةٍ لا تسمح للفرد أن يكون فرداً، تبقيه بعيداً عن أسئلةٍ من قبيل، من أنا؟ كيف أبدو؟ كيف تراني؟ هي أسئلةٌ شكلت هواجس للبشر على مر العصور. ودفعتهم لرسم مساراتٍ لأدوارهم الاجتماعية. في هذه المجموعات، يقايض الأمان بالصمت. تذكر نفيسي عن قرارها في كتابة مذكراتها ونشرها، فتقول أن شعوبنا بطبيعتها متحفظةٌ، نحن نفضل الصمت بكل مقاييسه صمتٌ على طاولة العشاء، صمتٌ اجتماعيٌ، صمتٌ سياسيٌ.
لكن ماذا لو جلسنا على طاولة المشاعر وتحدثنا؟ في مجتمعٍ ترسم ملامحه أعراف القبيلة، تعالج فيه الجدات مشكلاتنا الوجودية هذه بصيغٍ ماورائيةٍ. يتعاملن معنا كتاريخٍ بعيدٍ، الجدة لا تقر بأننا نكبر، بل نحن في نظرهن ما نزال الأطفال الذين يمرضون، وحين تنقلب أجسادنا علينا، يفسرن آلام الطمث على أنها حنين الجسد للولد، ينسحب ذلك على انتظار الأمهات والخالات حتى نعبر فترة الدراسة والعمل والانشغال بطموحاتنا، بوصفها مرحلةً شاقةً من الحياة. مرحلةً لابد وأن تنتهي؛ لنتقلص ونلائم الإطار. غالباً عندما يصيبني السأم، أسمح لهن أن يعتقدن أن هنالك عطباً ما في جسدي يمنعني من الأمومة، أستشف نفس الانتظار في دعابات أساتذتي الموقنة أنني سأتخلى عن الكتابة ما أن أصبح أماً. وعندما أحتج، أبعث لرفيقتي في الكتابة؛ لأخبرها أنني متعبة، أنا متعبةٌ من مخاضات الذات الداخلية دون احتفاءٍ ممن أحبهم، أقمط أصواتاً، وكلماتٍ، ورؤىً تعجز أمي عن رؤيتها واحتضانها. كفتاةٍ تريد أن تقرأ وتكتب لا غير، أشعر أنني على ضفة أخرى من حياة الآخرين.
المراجع العربية:
- شيبر, م. (2020). تلال الفردوس، تاريخ الجسد الأنثوي بين السلطة والعجز. الجيزة: دار صفصافة.
المراجع الأجنبية: - Clarke, C. (1975). The Rock art in Oman. Journal of Oman Studies, (1) 113- 122.
- Jackli, R. (1980). Rock art in Oman. Switzerland.