الكاتب: بدر العبري
العلامة الفقيه المفسر محمود شلتوت [ت 1963م] داعية إصلاح، نير الفكرة، من الدّاعين لفتح باب الاجتهاد، وسعى إلى إصلاح الأزهر، فعارضه كبار الشّيوخ، وطردوه هو ومناصروه، وكان خطيبا مفوها[2]، وكان أول حامل للقب الإمام الأكبر[3].
والشّيخ شلتوت امتداد للمدرسة الإصلاحيّة، والّتي تعمّقت عند جمال الدّين الأفغانيّ [ت 1879م]، ومحمد عبده [ت 1905م]، إلا أنّه لم يكن من رواد المدرسة التّفكيكيّة للنّص، وأقرب إلى المدرسة الإصلاحيّة التّجديديّة.
وفي عام 1947م نادى الشّيخ محمود شلتوت مع الشّيخ محمد تقيّ القميّ [ت 1990م] نيابة عن آية الله السّيد حسين البروجرديّ [ت 1961م] بإحياء نظريّة التّقريب بين المدارس الإسلاميّة، وفي عام 1949م أصدروا مجلة رسالة الإسلام حتى وقّفت سنة 1972م بعد إصدار ستين عددا[4]!!
ولمّا سُئِل شلتوت في فتاويه عن الغناء والمعازف، ناقش القضيّة رابطا بين الجوانب الثّلاثة: الفلسفيّة والمجتمعيّة والفقهيّة، محاولا إسقاط هذه الجوانب في جوّ تقريبيّ يقرّب الصّورة المختلفين في الآراء.
ففي الجانب الفلسفيّ ركز على جانب الفطرة، وهي الفلسفة الجامعة بين الجميع كجاني غريزيّ في الإنسان، فالله تعالى خلق الإنسان بغريزة يميل بها إلى المستلذات والطّيبات الّتي يجد لها أثرا طيبا في نفسه، به يهدأ، وبه يرتاح، وبه ينشط، وبه تسكن جوارحه، فتراه ينشرح صدره بالمناظر الجميلة، كالخضرة المنسقة، والماء الصّافيّ الّذي تلعب أمواجه، والوجه الحسن الّذي تنبسط أساريره، ولهذا لا يمكن عقلا نزع هذه العاطفة أو إماتتها أو مكافحتها في أصلها.
وبعد هذا التّأصيل الفلسفيّ للغريزة يرى شلتوت أنّ الشّرائع السّماويّة من أهدافها أمام الغرائز التّنظيم والتّوسط والاعتدال، وليس موقف المنع والإماتة والانتزاع، فإذا مال الإنسان إلى سماع الصّوت الحسن، أو النّغم المستلذ، من حيوان أو إنسان، أو آلة كيفما كانت، أو مال إلى تعلّم شيء من ذلك؛ فقد أدى للعاطفة حقها، بحيث يقف مع هذه الغريزة مع الحدّ الّذي لا يصرفه عن الواجبات الدّينيّة، أو الأخلاق الكريمة، أو المكانة الّتي تتفق ومركزه.
ويرى شلتوت أنّ هذا الحدّ كاف في التّعامل مع هذه القضيّة، ولكن مشكلة النّاس لا يقنعون بهذا؛ بل يريدون إسهاب نقل ما قيل في الكتب الفقهيّة من آراء، فهنا ينطلق شلتوت من الدّائرة المشتركة بين الجميع، وهو إباحة السّماع في إثارة الشّوق إلى الحج، وفي تحريض الغزاة على القتال، وفي مناسبات السّرور المألوفة كالعيد والعرس، وفي قدوم الغائب.
لهذا يرى من هذه الدّائرة ممكن نفهم رأي الفريقين، ممّن قال بالحلّ أو بالحرمة؛ لأنّ الإشكاليّة في بعض الآثار لا في الحدّ المشترك، ولهذا من قال بالحلّ أنّه ليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله، ولا في معقولهما من القياس والاستدلال، ما يقتضي تحريم مجرّد سماع الأصوات الطّيبة الموزونة مع آلة من الآلات، ولهذا قالوا حول آثار المنع أنّه لم يصح منها شيء.
ولهذا الاضطراب في الجانب الفقهيّ سوف يؤثر في الجانب المجتمعيّ، ويسقط أثره على النّاس من خلال الاضطراب بين من يستند إلى كلمات تقرأ في بعض الكتب الشّرعيّة، أو يسمعها ممّن يلبس ثوب الورع على غير الوجه الّذي يلبس عليه، وبين من تأخذه عاطفته البريئة، ويقوده عقله إلى سماع الموسيقى وتعلّمها.
لهذا يخلص أنّ سماع الآلات، ذات النّغمات والأصوات الجميلة، لا يمكن أن يحرّم باعتباره صوت آلة، أو صوت إنسان، أو صوت حيوان، وإنّما يحرّم إذا استعين به على محرّم، أو اتخذ وسيلة إلى محرّم، أو ألهى عن واجب، لأنّ تحريم ما أحلّه الله تعالى، أو تحليل ما أحلّه كلاهما افتراء على الله سبحانه وتعالى.
يتبع الحلقة السّابعة عشر
الهامش:
[1] للمزيد ينظر: شلتوت: محمود؛ الفتاوى: دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليوميّة العامّة، ط دار الشّروق، الطّبعة السّابعة عشرة، لا تأريخ، ص: 409 – 414.
[2] ينظر: الزّركليّ: خير الدّين، الأعلام، مصدر سابق، ج: 7، ص: 173.
[3] الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: الأحد 26 نوفمبر 2017م، السّاعة السّابعة صباحا.
[4] العبريّ: بدر بن سالم؛ مقال نظرية الوحدة من خلال شعائر الحج، مجلّة التّكوين، عدد 23، ذو الحجة 1438هـ/ سبتمبر 2017م، ص: 52 – 53.