احمد بن سليمان الكندي
في ذكرياتنا المدرسية كلمات علقت في نفوسنا منذ أول يوم في المدرسة، وربما قبل أن نبلغ سن السادسة، وقبل أن نستطيع أن نلمس الأذن اليسرى باليد اليمنى مروراً بأعلى الرأس وهو أحد الاختبارات التي كانت تجرى للأطفال لتحديد إمكانية إلحاقهم بالمدرسة.
الطلقة كانت تعني انتهاء اليوم الدراسي ، ولعل الكلمة نشأت لعلاقتها المباشرة بمعاني الانطلاق والتحرر، الانطلاق من قوانين المدرسة والتحرر من نظامها. إنها تعني ببساطة الانتقال من حالة النظام إلى اللانظام، من حالة القيود والانضباط إلى وضع حر لا قيود عليه ولا ضابط فيه.
ومن يشاهد طلبة المدارس ( وإلى الآن ) وهم يخرجون من قاعات الدرس يفهم لماذا سميت هذه العملية بالطلقة، فسرعتنا واندفاعنا لمغادرة الصفوف في نهاية اليوم الدراسي تشبه – وطبعاً لا تطابق – سرعة الطلقة التي تغادر فيها الرصاصة فوهة البندقية.
والحقيقة أن الطلقة لها جوانب عسكرية أخرى، فبعض الطلبة كانوا يعمدون إلى ضرب الطاولات الخشبية بمقامع حديدية متبقية من أشلاء الكراسي فتأتي بصوت أشبه بهدير المدافع، وصورة التحام حشود الطلبة الخارجون من الفترة الصباحية مع الطلبة القادمين للفترة المسائية تشبه صورة التحام جيشين متصارعين.
الطلقة كانت تمثل لنا لحظة التحرر من القيود المدرسية، في تلك اللحظة تسقط هامات الاحترام، وتنتهي طقوس التقديس، في تلك اللحظة تسقط كبرياء النظام المدرسي وتتلاشي سطوته.
أذكر أننا كنا نتبارى في إطلاق أعلى الصرخات حين يقرع جرس الطلقة، أذكر أننا كنا نسرع بالخروج من الصف حتى وإن كان المدرس لا يزال موجوداً، بل إننا نخرج من الصف والمدرس لا يزال يواصل عمله، وفي الحالات القليلة التي كان المعلم يأمرنا بالتريت قليلاً لينتهي من شيء ما؛ كنا لا نستنكف أن ننظر إليه بغيظ لأنه طلب شيئاً ليس من حقه، كنا نعتبر الطلقة حاجزاً لا يمكن كسره بيننا وبين النظام، كنا نعتبرها بطاقة حمراء نرفعها في وجه المدرسة، ولا يستطيع أحد ردها ، كنا نعتبر الطلقة حداً قانونياً ورسمياً يفصل بين الأخوة الأعداء المعلمين والطلاب.
والغريب أن إدارة المدرسة والمعلمين كانوا يخضعون بطريقة لا إرادية لهذا الوضع الصاخب الذي تأتي به الطلقة، ربما لأنهم يقدرون براءتنا وفرحتنا بانتهاء اليوم، وربما لأنهم متشوقين كذلك لانتهاء اليوم المدرسي ويجدون من ينوب عنهم في التعبير عن فرحتهم بانتهاء ساعات العمل، وربما لأنهم يعرفون أن لا سلطان لهم علينا بعد قرع الجرس فيبادرون إلى تقمص دور الأب الذي يرأف بأولاده فيغض الطرف قليلاً عن شططهم.
لحظة الطلقة كانت تمثل للطلبة انعتاقاً من قيود النظام المدرسي، ودعوة متكررة للنشوز عليه واقتحام أركانه، واستعراضاً لعضلات سجين كان مكبلاً بأغلاله. لحظة الطلقة كانت من اللحظات التي تتوحد فيها رغبة جميع الطلبة، فينطلقون جميعهم في ساعة الصفر ليضربون ضربة رجل واحد.
ربما انطلق هذا التصور للطلقة لدى الطلبة، من التباين في الحرية المتاحة للطالب داخل المدرسة وخارجها ، ففي داخل المدرسة يكون على الطالب الالتزام بأشياء كثيرة ، التزام في اللباس وفي الحركة وفي الحديث مع زملائه .. ألخ ، وإذا ما قدرنا لمرحلة الطفولة ما فيها من رغبة جامحة للحركة و التنقل ورفض الخضوع لأي قيود؛ فإننا نفهم لماذا تمثل الطلقة لحظة انفراج للطلبة يتسابقون كلهم للتعبير عنها كلٌ بأسلوبه.