حمود بن علي الطوقي
لا أدري لماذا وفي هذا التوقيت بالذات تذكرت احد الأقارب في قريتي ويدعى ( بوكورو) وكلمة بوكورو باللغة الرواندية تعني الكبير. هذا الإسم جاء به عندما رجع إلى عمان قادما من غرب افريقيا واستقر في قريتنا السباخ ، اسمه خالد بن سعيد كان رجلا بسيطا وشخصية محببة للقلب ، كان سنه فوق الخمسين عندما انتقل إلى جوار ربه ولكن كان عقله لا ينمو وكأنك تعامل طفلًا صغيرًا. كان لطيفًا لا يعرف ما يدور حوله من الاحداث رغم أن تلك الفترة كانت المنطقة ملتهبة كحرب الخليج الأولى والثانية ، كان الأطفال الصغار يلتفون حوله ولم يكن يدرك انه يكبرهم بخمسين سنة . تذكرته وأنا أتابع الأحداث الملتهبة التي تعصف بالعالم من الأمراض والانفجارات وبروز قضايا الفساد وغسيل الأموال وصراعات بين القوى العظمى ، صورة صاحبنا سيطرت على عقلي الباطني وتشكلت صورته في ذهني وأجدني اغبطه لانه كان لايعرف اي شيئ، ولا يميز بين السياسة والاقتصاد، ولا بين العلم والجهل، ولا بين الكريم والحقود ، كان منذ الصباح الباكر ينتقل من بيت إلى بيت وكأنه عصفور يطير من غصن إلى غصن ، كان لا يأبي ان يطرق الباب ويدخل البيوت بدون استئذان ليجد الترحيب من أهل الدار .
لم يكن مهموما في نهاية الشهر ينتظر الراتب الذي يتوزغ بين دفع إيجار المنزل وأقساط السيارة ومستلزمات الحياة التي تشتد صعوبة من عام إلى آخر .
كان يعود نهاية يومه إلى بيته محملا بأكياس تحمل ما طاب ولذ من الطعام والحلويات وكان الأطفال ينتظرونه على الطرقات ليوزع لهم ما تجود نفسه الرحيمة بالسكاكر والحلوى والفواكه التي تمتلئ بها أكياسه.
أجمل ما اتذكر في صفات هذا الرجل بعقلية طفل هو جهله لما يدور حوله من احداث ، كانت ابتسامته وضحكاته التي تتوزع على زقاق القرية تحمل الهمة والحيوية لشباب وابناء القرية . كم اشتقت لهذا الرجل وكم أتمنى أن يمنحني ولو لساعات معدودة دماغه الفارغ واستبدله بدماغي الملغم والمسكون بتقلبات هذه الحياة المليئه بالغث والسمين .
كنت أراه عندما يتعب من صولاته وجولاته يفترش التراب بمصره الملطخ بلون الورس ويستسلم للنوم وكان وجه الطفولي يجبر المارين بعدم ايقاظه من نومه الهادئ .
كان يعرف اسماءنا ونتعمد لنسأله فكان يصفق لنفسه كونه اصاب الجواب ، من غير ابناء القرية كان يعرف فقط السلطان قابوس رحمه الله ولا يعرف غيره من المسؤولين صغيرهم وكبيرهم في هذه الدولة بأكملها. لا يهمه من يكون هذا وزيرا او غفيرا.
فكم تكون محظوظا عندما تقابل شخص بمستوى هذا الرجل الطفولي الذي يحب الحياه بحلوها ومرها ولا بتذمر لان الحياة بالنسبة له محطة لابد وان تكون جميلة ، اهم شيئ في الحياة ان تعيش بسلام.
وصدق المتنبي حين قال :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ..
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
هذا الرجل الطفولي البسيط كان يعيش بيننا في
راحة بال ولا تعكره مشاكل ومتطلبات الحياة البائسة .
فكم نحن في حاجة الى مرحلة نجدد حياتنا بمسح كل ما هو عالق في ادمغتنا الملتهبة بقضايا لا تسمن ولا تغني من جوع .