الكاتب : زكريا بن عامر بن سليمان الهميمي
تمثل مدارس تعليم القرءان الكريم في عمان نموذجا من نماذج تعليم الكتاتيب في الحضارة الاسلامية ، فقد كانت هذه المدارس تهتم بتدريس القواعد الأساسية في التعلم : كتعلم الكتابة والقراءة وفن الخط ، ومبادئ الفقه والحساب فهي بحق تعد امتدادا لنظام الكتاب في الحضارة الإسلامية ، وتوصف مدارس تعليم القرآن الكريم في عمان في الماضي بأنها كانت ذات تعليم تقليدي ،” والتعليم التقليدي هو تعليم يعتمد على فلسفة ومناهج ووسائل كانت سائدة في المجتمع العماني قبل أن تدخل إليه نظم التعليم الحديثة ، فما إن وصلت دعوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام إلى أهل عمان حتى أقبلوا على الدين الجديد يتعلمونه من القرآن الكريم ويعلمونه أبناءهم ، فكانت مدارس القرآن في كل بلد عماني “( الموسوعة العمانية ، المجلد الثاني ( ب- ت )، ص 729)، وتمثل مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم في ولاية بهلا وهي محور هذه الصفحات إحدى تلك النماذج الإسلامية والحضارية المشرقة ، فنظرا لما كانت تقدمه تلك المدرسة من تعليم تقليدي رصين حظيت باهتمام أهالي ولاية بهلا فكان أبناء وبنات الولاية يتوافدون عليها زرافات ووحدانا عبر فترات التاريخ ، ولا تنسى الأجيال الحالية التي ما زالت تعيش بيننا فضل هذه المدرسة في صقل معارفهم ومهاراتهم الابتدائية والأساسية ، فقد كانت مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم تمثل أيضا نموذجا لنظام التعليم الديني التقليدي العماني في مراحله الأولى.
وصف الحارة التي تنسب إليها مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم :
تقع حارة صالح في مركز واحة مدينة بهلا العريقة ، وبالقرب من قلعتها التاريخية ، وجامعها القديم وسوقها التقليدي ، فهي تقع في جهة الغرب من سوق بهلا القديم ” وسميت بهذا الاسم – فيما يقال – نسبة إلى قبيلة قامت بتأسيسها ألا وهي قبيلة الصالحي العمانية التي سكنت في هذه الحارة “، ولكن الآن لا وجود لأفراد هذه القبيلة في ولاية بهلا ، فهي تعد من القبائل التي هجرت ديارها ولم تعد إليها حتى يومنا هذا ، ولذا فهذه الحارة بقي اسمها في هذه الولاية شاهدا على مؤسسيها “( مقابلة مع والدي عامر بن سليمان بن عامر الهميمي أحد طلبة مدرسة حارة صالح في منزله في حارة اللحمة التاريخية في ولاية بهلا )، و لا وجود لمباني وأماكن سكنى هذه الحارة في الوقت الحاضر ولكن بقي من آثارها الدالة عليها مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم والتي بني في مكانها الآن أحد المحلات التجارية التابعة لوقف مسجد حارة صالح ، وذلك بعد انتقال مكان المدرسة إلى مكان آخر خصص لها وما زال يحمل اسمها إلى يومنا هذا ، إضافة إلى مسجد حارة صالح الذي أعيد بناؤه على الطراز المعماري الحديث في ثمانينيات القرن الميلادي الماضي ، ومباني حارة صالح كانت تقع في جهة الجنوب من حارة الرم وبالقرب منها ، كما تقع مبانيها أيضا في جهة الشرق من الأماكن التابعة لحارة اللحمة التاريخية “.
مآثر قبيلة الصالحي مؤسسة مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم في ولاية بهلا :
” منازل ومباني حارة صالح- التي هجرها أهلها إلى محافظة شمال الباطنة وبالتحديد إلى ولاية السويق – كانت قائمة حتى بداية عصر الإمام سالم بن راشد بن سليمان الخروصي ( حكم: 1331-1338ه /1913-1920م ) ، عندما اقترح الرشيد عامر بن سليمان بن عبيد بن محمد الهميمي ( ولد : 1302 ه / ت : 1342 ه) الذي كان أحد وكلاء بيت مال المسلمين في ولاية بهلا آنذاك على الشيخ العلامة الوالي أبو زيد عبد الله بن محمد بن رزيق الريامي ( ولد : الجمعة ليلة 15 رمضان 1301 ه/9 يونيو 1884- ت: 3 من رجب 1364 ه /14 يوليو 1945م ) ، هدم حارة قبيلة الصالحي ، وإدخال أملاكهم ضمن أملاك بيت مال المسلمين باعتبار أنها أملاك لا أرباب لها بسبب هجرتهم عنها بلا عودة ” فتم إدخال أملاكهم في بيت المال وإزالة مباني تلك الحارة ، وتمت زراعة مجموعة من النخيل في أماكن سكناهم السابقة يعود ريعها لبيت مال المسلمين في ولاية بهلا ” (مقابلة مع والدي عامر بن سليمان الهميمي في منزله بحارة اللحمة التاريخية بولاية بهلا)، ومما تبقى من ذكرى قبيلة الصالحي العطرة في ولاية بهلا حتى يومنا هذا أيضا مسجد يحمل اسم حارتهم التاريخية وهو مسجد حارة صالح، و يقع هذا المسجد في جهة الغرب من سوق ولاية بهلا في قلب ولاية بهلا العريقة ، ويقع هذا المسجد أيضا بالقرب من فلج الميثا والذي يعد أحد أقدم وأشهر الأفلاج العمانية في ولاية بهلا ، وتم في بداية الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي هدم المسجد المبني بالطين واللبن وإعادة بناءه من جديد على الطراز المعماري الحديث بتبرعات من أهالي هذا المسجد وجهود بعض المحسنين ، وتم افتتاحه في 15 شوال 1404 ه الموافق 15- 7- 1984 م “( الهميمي ، زكريا بن عامر ، تخريج مخطوطات وقف مسجد حارة صالح ( أنموذج لتدوين الوقف في عٌمان ) ، ص 23)، ومن أهم آثار أفراد قبيلة الصالحي أيضا مدرسة عرفت باسمهم وهذا ما سنتناوله في ثنايا هذه الصفحات بالتفصيل.
تأسيس مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم:
تنسب مدرسة حارة صالح إلى مؤسسيها من أفراد قبيلة الصالحي ولا نعلم تاريخ تأسيس هذه المدرسة تحديدا ” واستمر التدريس فيها إلى أواخر العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري الحالي ، موقعها جنوب سوق بهلا وعلى جهة الغرب من جامع السوق “( العدوي ، خميس بن راشد ، الوقف العلمي في بهلا ماضيه وحاضره ، ص60).
وصف الجانب المعماري لمدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم:
” أسست قبيلة الصالحي مدرسة باسم مدرسة حارة صالح ، وقد كان مقر المدرسة القديم والذي قام ببنائه أفراد تلك القبيلة يقع في اتجاه الشرق من مسجد حارة صالح على بعد أمتار قليلة منه ، وكانت المدرسة عبارة عن مبنى مبني بالطين والحجارة به باب واحد ، وأمام الباب سلم صغير يقع في اتجاه الشمال ، وكان في داخل المدرسة قطعة حجارة ملساء كان يجلس عليها معلم المدرسة ، وكان للمدرسة فتحات كبيرة على شكل أقواس تسمى مصابيح ، فقد كانت هنالك فتحتان في جهة الشرق ، وفتحتان أخريان في جهة الغرب ، وقد كان في المدرسة سبعة نوافذ مرتفعة ولكن لم يكن لها ألواح خشب لغلقها “( مقابلة مع والدتي التي كانت إحدى الطالبات اللاتي كن يدرسن في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم في عام 1945م )، ” وتم في نهاية الستينيات من القرن الميلادي الماضي هدم مبنى مدرسة القرآن الكريم تلك ، و نقل مقر التعليم فيها إلى مكان آخر يقع في اتجاه الشرق على بعد عدة أمتار من مبنى المدرسة القديم ، جنوب سوق ولاية بهلا ، وباتجاه الغرب من جامع بهلا التاريخي القديم ، وهذا المقر كان عبارة عن مبنى من الطين والحجارة كانت له عدة نوافذ كبيرة ومدخل من جهة الشمال ، وبالقرب من ذلك المدخل على جهة اليسار منه كان يقعد معلم القرآن الكريم لتعليم الصبيان بنين وبنات ، وكان آخر من قام بالتدريس فيه هو المعلم سليمان بن ناصر بن سليمان المحروقي ” .( مقابلة مع والدي عامر بن سليمان الهميمي أحد طلبة المدرسة في عام 1939 م في منزله بحارة اللحمة التاريخية بولاية بهلا)، وفي التسعينيات من القرن الميلادي الماضي تم هدم مبنى المدرسة الثاني ، وتم بناؤها على الطراز المعماري الحديث تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في السلطنة
أوقاف مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم:
لمدرسة حارة صالح عدد من الأوقاف التي وقفها أهل الخير لهذه المدرسة إيمانا منهم بدور الوقف الإسلامي في خدمة التعليم بعامة والقرآن الكريم بخاصة ، ومن تلك الأوقاف :
1- ضاحية الطاحونة ، وتقع جنوب سوق بهلا القديم ، وفي جزء منها يقع جامع السوق حاليا .
2- ضاحية العاصة ، تقع على جهة الشرق من المدخل الشرقي لحارة العقر .
3- ضاحية ابن مالك .
4- ضاحية تسقى من فلج المقين، وهو فلج يقع في بطن شرجة السوق شرق سوق بهلا القديم ، تحت الطريق العام المرصوف من جهة الغرب”، “وقد يعطى المعلم في مدرسة حارة صالح من وقف الحارات الثلاث المشتركة فيها ، وهي حارة الرم و حارة الندوة و حارة اللحمة ” ( العدوي ، خميس بن راشد ، الوقف العلمي في بهلا ماضيه وحاضره ، ص 60 و ص 61 ).
من معلمي القرآن الكريم بمدرسة حارة صالح عبر التاريخ :
ومن المعلمين الأجلاء الذين قاموا بمهمة التدريس في مدرسة حارة صالح في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين نذكر كل من:
1- المعلم خلفان بن محمد المحروقي، من أهالي ولاية بهلا .
2- المعلم ناصر بن سليمان بن محمد المحروقي ، من أهالي ولاية بهلا.
3- المعلم أبو عمر محمد بن سالم المعدي ، من أهالي ولاية بهلا .
4- المعلم راشد بن الهي بن ثني الشكيلي ، وقد أتى مهاجرا لولاية بهلا من ولاية الرستاق ( ت: 7 من شهر رجب سنة 1407 ه) .
5- المعلم تيسير بن ياسر الكندي ، من أهالي ولاية نزوى.
6-المعلم سالم بن سليم الهنائي ، و كان من أهالي قرية بلاد سيت التابعة لولاية بهلا .
7- المعلم محمد الريامي ، وكان من أهالي ولاية إزكي.
7- المعلم سليمان بن ناصر بن سليمان المحروقي ، من أهالي ولاية بهلا( مقابلة مع والدي عامر بن سليمان الهميمي أحد طلبة المدرسة في عام 1939 م في منزله بحارة اللحمة التاريخية بولاية بهلا).
وجدير بالذكر في هذا المقام أن نعرج على دور عائلة المعلم: ناصر بن سليمان بن محمد بن عبدالله بن أحمد المحروقي المكونة من الأب وابنه ودورهما في تدريس القرآن الكريم في مدرسة حارة صالح مع ذكر ترجمة مختصرة لحياتهما العلمية والاجتماعية ابرازا لدورهما في مجال التدريس في المدارس القرآنية العمانية التقليدية، فالمعلم ناصر بن سليمان بن محمد المحروقي كان معلما للقرآن الكريم بمدرسة حارة صالح لما يقرب من أربعين عاما، وقد وقف نخلة لمسجد حارة صالح وكتب ذلك الوقف الشيخ ثابت بن سرور بن حمد الغلابي بيده ( ت: 1370 ه ) ، وأصبح ابنه سليمان فيما بعد أيضا معلما في نفس تلك المدرسة ، كما أن ابنه أيضا كان وكيلا لمسجد محلة صالح ، وكانت وفاة ناصر بن سليمان المحروقي في عام 1357 ه على وجه التقريب، أما ابنه المعلم سليمان بن ناصر بن سليمان المحروقي فقد ولد في عام 1338 ه في حارة الندوة بولاية بهلا ، ووالدته هي شيخة بنت سالم بن عيسى الهميمية ، أما جده الثالث عبد الله بن أحمد بن محمد بن سليمان بن عمر المحروقي فقد كان وكيلا لمسجد حارة صالح وقد أمر الناسخ سليمان بن محمد بن مطر الوائلي بإعادة نسخ المخطوطة الأولى لوقف مسجد حارة صالح في عام 1333 ه / الموافق لعام 1915 م ، وكان المعلم سليمان مدرسا في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم ، ” فقد كان آخر من درس فيها ” ( العدوي ، خميس بن راشد ، الوقف العلمي في بهلا ماضيه وحاضره ، ص60 ) ، واستمر المعلم سليمان في التدريس في هذه المدرسة قرابة الأربعين عاما حتى إحالته للتقاعد في بدايات تسعينيات القرن الميلادي الماضي ، وقد تلقى العلم على يد والده المعلم ناصر بن سليمان بن محمد المحروقي، وكان المعلم سليمان يقول الكثير من أبيات كتاب جوهر النظام والتي كان يحفظها عن ظهر غيب ، كما أنه كان يقرأ جزأين من القرءان الكريم يوميا ، إضافة إلى قيامه برحلات حج إلى بيت الله الحرام عن نفسه ونيابة عن الغير ، كما كان يمتلك محلا تجاريا في سوق ولاية بهلا ، كما كان يمارس حرفة صناعة السعفيات ، كما كان أيضا أحد وكلاء مسجد حارة صالح ، كما كان إماما لهذا المسجد مدة طويلة من الزمن ” ( الهميمي، زكريا بن عامر بن سليمان ، سلسلة من أعلام بهلا : المعلم سليمان بن ناصر المحروقي ، مكتبة الندوة العامة بولاية بهلا)، ” وقد توفي المعلم سليمان بن ناصر المحروقي بعد مسيرة حافلة بالعطاء في مهنة التدريس عن عمر 92 عاما في 13 من رمضان سنة 1430 ه /الموافق 3 من شهر سبتمبر 2009 م بعد صلاة المغرب إثر إصابته بمرض عضال لم يمهله طويلا ودفن في مقبرة السد بولاية بهلا “( مقابلة مع سالم بن المعلم سليمان بن ناصر المحروقي بتاريخ 9 من شهر جمادى الثانية عام 1431 ه الموافق 23 من شهر مايو عام 2010 م ).
من طلبة مدرسة حارة صالح :
استقطبت المدرسة خلال مسيرتها التعليمية عددا كبيرا من طلبة العلم من الجنسين ذكورا وإناثا ، “حتى أنه يذكر أن بعض الطلبة كانوا يأتون للمدرسة سيرا على الأقدام من أماكن بعيدة عن المنطقة المحيطة بالمدرسة( مقابلة مع والدتي التي كانت إحدى الطالبات اللاتي كن يدرسن في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم في عام 1945م )، ونذكر من الطلبة في العام الدراسي 1945 على سبيل المثال لا الحصر كلا من الطلبة:
1- سعيد بن صالح المعدي.
2- سيف بن شيخان العلوي.
3- سيف بن مالك الهنائي.
4- خلف بن ناصر بن سليمان المحروقي .
5- خميس بن محمد بن سالم الهميمي.
6- عبدالله بن محمد بن سالم الهميمي .
7- هاشم بن خميس الهاشمي.
8- علي بن خميس الهاشمي .
9- خميس اليحيائي.
10- عبدالله بن زاهر الشقصي.
ومن الطالبات كلا من :
1- حميدة بنت حمود العلوية .
2- موزة بنت سليمان العلوية .
3- خديجة بنت محمد القصابية.
المنهج الدراسي المطبق في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم :
كان منهج التدريس في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم يتم وفق خطوات منظمة ومتدرجة ، ووفق عملية تدريسية منهجية تراعي مبدأ التدرج في التعلم ، و كانت هذه الطريقة في التدريس تهدف في نهاية المطاف إلى تخريج جيل متمكن من اكتساب مهارات التعلم الأساسية التمهيدية كمهارتي القراءة والكتابة انطلاقا من توظيف القرءان الكريم كأساس للتعلم ، وكانت تلك الخطوات تشمل التالي :
1- يقوم المعلم أولا بكتابة ثلاثة أو أربعة حروف هجائية كمرحلة أولى في دفتر الطالب ويطلب منه أن يقلدها أي أن يعيد رسمها من جديد بشكل صحيح ، فإذا قام الطالب بكتابتها كتابة صحيحة يكتب له المعلم أسفلها كلمة ” صح ” حيث لم يكن المعلم سليمان بن ناصر المحروقي يستخدم علامات ورموز وإشارات للدلالة على الصواب والخطأ في تلك الفترة.، وإذا أخطأ الطالب في كتابتها أو في كتابة بعضها يكتب له كلمة : ” غلط ” ، ثم يطلب منه إعادة كتابتها من جديد حتى يتقن رسمها اتقانا جيدا .
2- بعد التأكد من قدرة الطالب على رسم تلك الحروف يقوم المعلم بالتوسع في كتابتها ، فيكتب جميع الحروف الهجائية في دفتر الطالب ، ويطلب منه أن يقلدها كلها : أي أن يعيد رسمها من جديد بشكل صحيح ، فإذا قام الطالب بكتابتها كتابة صحيحة يكتب له المعلم أسفلها كلمة ” صح ” ، وإذا أخطأ الطالب في كتابتها أو في كتابة بعضها يكتب له كلمة : ” غلط ” ، ثم يطلب منه إعادة كتابتها من جديد حتى يتقن رسمها اتقانا جيدا .
3- بعد انتهاء الطالب من كتابة الحروف الهجائية وإتقان كتابتها اتقانا جيدا، ينتقل المعلم إلى مرحلة جديدة وهي مرحلة كتابة الكلمة الواحدة ، وفي هذه المرحلة يكتب المعلم للطالب في دفتره أسماء كلمات مجموع الحروف الهجائية العربية ” وفقا لترتيبها عند الساميين ، قبل أن يرتبها نصر بن عاصم الليثي الترتيب المعروف الآن ” (إبراهيم مصطفى وآخرون ،المعجم الوسيط ، الجزء الأول ، ص 1 ) ، وهذه الكلمات هي : ” أبجد ، هوز ، حطي ، كلمن ، سعفص ، قرشت ، ثخذ، ضظغ ” ، فإذا كتبها الطالب كتابة صحيحة في دفتره يكتب له المعلم أسفلها كلمة ” صح ” ، وإذا أخطأ الطالب في كتابتها أو في كتابة بعضها يكتب له كلمة : ” غلط ” ، ثم يطلب منه إعادة كتابتها من جديد حتى يتقن رسمها اتقانا جيدا .
3- بعد انتهاء الطالب من كتابة كلمات مجموع الحروف الهجائية العربية وإتقان رسمها ، يكتب المعلم للطالب في دفتره أسماء أيام الأسبوع ، وتسمى : ” ذكر أسماء الأيام ” وهي كلمات : السبت ، الأحد ، الاثنين ، الثلاثاء ، الأربعاء ، الخميس ، الجمعة ” ، ثم بعد إتقان الطالب لكتابتها كتابة صحيحة يكتب له المعلم كلمة ” صح ” في دفتره ، وإذا أخطأ في بعضها فإنه يكتب له كلمة ” غلط “، ثم يطلب منه إعادة كتابة تلك الكلمات حتى يتقن كتابتها بشكل صحيح .
4- بعد ذلك يكتب المعلم للطالب في دفتره أسماء الشهور الهجرية ، وتسمى : ” ذكر أسماء الشهور ” وهي كلمات : ” محرم ، صفر ، ربيع الأول ، ربيع الثاني ، جمادى الأولى ، جمادى الثانية ، رجب ، شعبان ، رمضان ، شوال ، ذو القعدة ، ذو الحجة ” ، ثم بعد إتقان الطالب لكتابتها كتابة صحيحة يكتب له المعلم كلمة ” صح ” في دفتره ، وإذا أخطأ في بعضها فإنه يكتب له كلمة ” غلط “، ثم يطلب منه إعادة كتابة تلك الكلمات حتى يتقن كتابتها بشكل صحيح .
5- ينتقل المعلم بعدها من مرحلة الكتابة بالخط العربي إلى مرحلة جديدة هي مرحلة تدريس أصوات الحروف العربية ، فيطلب من الطالب أن يقرأ جزءا من القاعدة البغدادية و هي منهج خاص بالقراءة والكتابة للمبتدئين، وهي عبارة عن نطق الحروف العربية باستخدام الحركات ، فالألف مثلا فوقها فتحة ، والألف فوقها ضمة ، والألف تحتها كسرة ، فينطق الطالب ذلك الحرف نطقا صحيحا يميز فيه بين كل حرف صوتي لذلك الحرف ويعينه على نطق تلك الحروف نطقا صحيحا المعلم ، و لا ينتقل الطالب لمرحلة جديدة حتى يتقن اتقانا نطق أصوات تلك الحروف .
6- ثم ينتقل المعلم بالطالب إلى قراءة الجزء الثلاثين من القرآن الكريم من خلال كتاب يضم ذلك الجزء ، فيبدأ المعلم بقراءة سورة الفاتحة أولا آية آية ، فيقوم الطالب بترديدها خلف معلمه مباشرة باستخدام أسلوب التكرار، وإذا أخطأ ذلك الطالب في نطق بعض كلمات آية معينة يقوم المعلم بتصحيح ذلك الخطأ مباشرة ، ثم ينتقل المعلم بعدها إلى السور القصار في الجزء الثلاثين من المصحف الشريف ، على عكس ترتيب ذلك الجزء متدرجا من السور القصار إلى السور الطوال حتى يختم الطالب ذلك الجزء كاملا .
7- ثم بعد إتمام الطالب لقراءة الجزء الثلاثين من المصحف الشريف المعروف ” بجزء عم ” ، ينتقل إلى الجزء التاسع والعشرون ، ويبدأ به عكس ترتيب السور الذي ورد في المصحف الشريف ، وهكذا باقي الأجزاء الأخرى حتى يصل الطالب في نهاية المطاف إلى السورة الأخيرة وهي سورة البقرة ، وبذلك يكون الطالب قد أنهى دراسته لقراءة المصحف الشريف على يد معلمه، وبذلك يكون الطالب قد ختم قراءة القرآن الكريم كاملا تلاوة على يد معلمه.
كما كان المعلم يدرس بعض الطلبة المجيدين في مدرسة حارة صالح أجزاء من كتاب تلقين الصبيان ما يلزم الإنسان ، وعددا من الأبيات الشعرية لكتاب جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام وهما للشيخ العلامة المربي المجدد نور الدين عبد الله بن حميد بن سلوم السالمي (1283 – 1332 ه / 1867- 1914 م ) وذلك لإكساب هؤلاء الطلبة عددا من المفاهيم والمعارف الأساسية المتعلقة بالعقيدة والفقه.
وإضافة إلى ذلك ، فإنه عند ازدياد عدد الطلبة في تلك المدرسة والذين قد يفوق عددهم الأربعين طالبا أحيانا فإن المعلم يقوم بتعيين عدد من الطلبة المجيدين ليكونوا مساعدين له في مهمة التدريس والإشراف على الطلبة ، فمن انتهى من قراءة السور المطلوبة منه مع المعلم ، فالمعلم يطلب منه أن يساعد زملائه في القراءة أو الكتابة ، فلا تكاد تجد في هذه المدرسة طالبا إلا وهو يقرأ أو يكتب أو يحفظ أو يساعد زميله في فهم الدرس (طريقة التدريس والتعلم في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم أخذتها بالمشاهدة الواقعية من طريقة تدريس المعلم سليمان بن ناصر بن سليمان المحروقي ، حيث كنت طالبا معه في تلك المدرسة في عام 1985 م)
ومن خلال قراءة تلكم الخطوات المتبعة في تعليم الطلبة في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم تتضح لدينا العديد من السمات التربوية المميزة لتك المدرسة ومنهجها الدراسي المتبع فيها ، ومن تلكم السمات التالي :
1- التعليم كان حقا لكلا الجنسين ذكورا وإناثا : بل أن عدد الإناث كان أحيانا يفوق بكثير عدد الذكور في تلك المدرسة ، وبذلك فقد كانت هذه المدرسة تتبع مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في حق التعليم ، وإتاحة فرصة التعليم التمهيدي للطفل بلا تفرقة بين الجنسين ، ولكن مع تخصيص مكان خاص للإناث ومكان خاص للذكور في نفس مكان التدريس مراعاة لمبدأ الخصوصية وعدم الاختلاط بين الجنسين في تلك المرحلة .
2- التدرج المرحلي المنظم في عملية التدريس و التعلم : حيث يبدأ المنهج الدراسي المتبع في التدريس بالتدرج من السهل حتى الصعب ، ومن القصير حتى الطويل، حتى يتمكن الطالب من فهم وإتقان المنهج الدراسي، إذ يبدأ الطالب بتعلم الحروف الهجائية ، ثم الكلمات ، ثم الجمل القصيرة المتمثلة في قصار آيات وسور القرءان الكريم ويتدرج في ذلك حتى يصل إلى نهاية المصحف الشريف في السور الطوال منه .
3- التركيز على كيفية رسم أشكال الحروف كوسيلة من وسائل الاتصال (Arabic alphabet writing ): فتعلم الطالب لرسم أشكال الحروف يعينه على كتابة الكلمات والجمل كتابة صحيحة ” وكانت أدوات الكتابة في الأربعينيات من القرن الميلادي الماضي في هذه المدرسة عبارة عن أدوات بسيطة تمثلت في قلم مصنوع من شجر العقار أو من شجر الحلف وهي عبارة عن أشجار تنبت على ضفاف الأودية ، كما كانت تستخدم ريشة مصنوعة من بقايا غزل شعر الحيوانات للكتابة ، أما المداد أي الحبر فكان يستخرج بعد عملية حرق الغفة ( وهي نوع من أنواع التبن ) ، وبعد عملية الحرق يتم دق تلك المادة المحروقة حتى تصبح ناعمة ، ثم يضاف إليها الملح والصمغ المستخرج من لحاء شجرة تعرف بشجرة الطلح ، أما الدواة التي يوضع فيها الحبر فإنها كانت تصنع من الفخار أو من الزجاج ،وكانت الكتابة في هذه المدرسة تتم في أكتاف الإبل والبقر من قبل معظم الطلبة ، حيث أن بعض الطلبة -وهم قليلون جدا – كانوا يمتلكون أوراقا للكتابة عليها في ذلك الوقت ” ( مقابلة مع والدتي التي كانت إحدى طالبات مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم عام 1945 م).
” أما المصاحف المطبوعة التي كان بعض الطلاب يقرؤون منها في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم فكانت تجلب من شبه القارة الهندية ، وبعد فترة بدأت تجلب من بعض دول الخليج كالمملكة العربية السعودية في ذلك الزمان ” (مقابلة مع والدي عامر بن سليمان الهميمي أحد طلبة مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم في عام 1939 م في منزله بحارة اللحمة التاريخية بولاية بهلا ).
4- التركيز على تعلم الحروف الصوتية Phonics )) : فعلم الأصوات Phonologyهو علم مهم جدا ، إذ أنه أساس في عملية القراءة لدى طالب العلم ، فمن لا يعرف نطق أصوات الحرف الواحد ، فإنه يعاني من ضعف قرائي ، وتدريس القاعدة البغدادية القائمة أصلا على تهجي أصوات الحروف بشكل مبسط وميسر يساعد الطلاب كثيرا على نطق الكلمات في الآيات القرآنية نطقا صحيحا ، ومناهج وطرق التدريس الحديثة في مجال اللغة توصي حديثا بأهمية تدريس الطلاب كيفية نطق الأصوات المكونة للحروف والكلمات اللغوية بجانب تدريس أشكال الحروف .
5- استخدام طريقة التكرار في التدريس(Drilling and Repetition): سواء أكان ذلك التكرار فرديا أم جماعيا ، فيقول المعلم الكلمة ثم يرددها خلفه الطالب حتى يتقنها ، فالمعلم في هذه الحالة يعطي الطالب نموذجا صحيحا لنطق الكلمات ، فيكررها الطالب ليحفظها مما يؤدي لرسوخ تلك المعلومات في ذهنه .
6- تطبيق التغذية الراجعة (Feedback) : فعندما يخطأ الطالب في هجاء كلمة ما مثلا ، يعطيه المعلم فرصة لتصحيح خطئه بنفسه ، وعندما يفشل الطالب في هجائها ونطقها نطقا صحيحا ، يزوده المعلم بتغذية راجعة من خلال تصحيحه لذلك الخطأ شفويا وبشكل مباشر ، كما يستخدم المعلم أيضا التغذية الراجعة المكتوبة ، فعندما يكتب الطالب الحروف الهجائية مثلا في دفتره بشكل صحيح ومتقن ، يكتب له المعلم كلمة ” صح ” ، والعكس الصحيح ، ويهدف تزويد الطالب بالتغذية الراجعة إلى تحسين مستواه التحصيلي ولزيادة دافعيته للتعلم .
7- المكافأة على الإنجاز لرفع دافعية الطالب للتعلم learning motivation) raise Reinforcement to): فعندما ينهي الطالب تلاوته للمصحف كاملا ، يقام له حفل مبسط داخل مدرسة القرءان الكريم ، تقدم فيه القهوة والفاكهة مكافأة على انجازه التحصيلي ولتحفيز دافعيته للتعلم في المستقبل ، وأحيانا يتم تناول القهوة والتمر والفاكهة في بيت من ختم القرءان الكريم ، وتتلى في هذا الحفل ما يسمى بالتيمينة، ” والتيمينة عبارة عن عدد من الأبيات الشعرية التي تتضمن حث الطلبة على الاهتمام بالعلم وبمكارم الأخلاق ، والالتزام بالقيم الدينية ، ويقوم المعلم بتلاوة التيمينة في داخل مدرسة حارة صالح، وبعد قراءة المعلم لكل بيت شعري يقول الطلبة بعده بصوت واحد ” ووه يمان ” أي بمعنى آمين ، والتي معناها اللهم استجب ، ثم بعد انتهاء المعلم من قراءة التيمينة في المدرسة ، ينتقل المعلم ومن معه من التلاميذ إلى منزل الطفل الذي ختم القرءان مهنئين والديه بختم ابنهم لكتاب الله ، ثم يتناولون في ذلك المنزل التمر والقهوة والفاكهة حسبما تجود به يد تلك الأسرة “( مقابلة مع والدتي والتي كانت أحد الحضور في ذلك الاحتفال الذي أقيم في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم صالح عام 1945 م )، ” كما يذكر أن المعلم سليمان بن ناصر المحروقي كان يقوم بتحفيز دافعية التعلم لدى طلاب مدرسة حارة صالح المجيدين وكذلك من يحقق انجازا في التعلم من الطلاب ضعاف التحصيل بإعطائهم الحلويات التي كان يحضرها لهم ابنه محمد المحروقي ( ت: 26 من شهر جمادى الثانية عام 1418 ه / 27 من شهر أكتوبر عام 1997 م) من دولة الإمارات العربية المتحدة أثناء عمل ابنه في تلك الدولة ، وكانت تلك المحفزات تؤتي ثمارا تحصيلية طيبة نتيجة رفع دافعية التعلم لدى هؤلاء الطلبة ” ( محمد بن حمد بن محمد المحروقي في رسالة نصية قصيرة بتاريخ 15 من جمادى الثانية عام 1431 ه الموافق 29 من شهر مايو عام 2010 م ).
8- الاهتمام بتعليم القرآن الكريم كأساس لتعلم اللغة العربية : فاللغة العربية هي وعاء للقرآن الكريم ، ولقد اهتمت مدرسة حارة صالح بتدريس القرءان الكريم تلاوة وحفظا إيمانا منها بالرسالة السامية لكتاب الله في الحفاظ على اللغة العربية التي تعد هوية دينية ووطنية لعمان ، وتطبيقا لقول المصطفى – صلى الله عليه وسلم – : ” علموا أولادكم القرءان فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو ” ، فإتقان الطالب لقراءة القرءان الكريم يعني إتقانه للغة العربية قراءة وكتابة ، ولا يمكن تعلم اللغة العربية تعليما متقنا إلا بربطها بالقرآن الكريم ، ولذا يتبين لنا أهمية الحفاظ على نظام الكتاتيب لتعليم القرءان الكريم لما لها من دور تأسيسي في تعليم مبادئ القراءة والكتابة باللغة العربية مما يسهل على الطالب إتقان تلك المهارات قبل دخوله لمراحل التعليم الرسمي.
9- توظيف المعلم للطالب في العملية التعليمية : فتكليف المعلم بعضا من طلبته بالقيام بتدريس جزء من الدرس لنظرائهم من الطلاب له العديد من الفوائد التربوية ، فهو يخفف العبء على المعلم في حالة ازدياد عدد الطلبة الراغبين في التعلم فيوفر بالتالي الكثير من الجهد والوقت عليه ، كما أن تعليم الطالب لزملائه يكسر الحواجز النفسية التي قد تتولد نتيجة تفاعل المعلم مع الطالب فقط ، كما أنه يساعد كثيرا في خلق بيئة من الحوار والتفاعل بين الطلاب أنفسهم هدفها هو اكساب الطالب قدرا من مهارات التعلم ، إضافة فإن اختيار المعلم لعدد من الطلاب الصغار للقيام بجزء من العملية التدريسية ينمي في شخصيتهم مبدأ الثقة بالنفس ويعودهم على تحمل المسؤولية ، فالتفاعل الصفي في هذه المدرسة كان يتم بين كل من المعلم والطالب ، وبين الطالب والطالب في بيئة صفية تعليمية منظمة، فتوظيف فكرة ” الطالب المعلم ، أو ما يمكن أن نطلق عليه مسمى : ” المعلم الصغير ” هي فكرة تربوية بدأت تأخذ حيزا كبيرا في التطبيقات التربوية الحديثة.
10- تطبيق التقويم من أجل تحسين التعلم ((Assessment for Improving Learning : ويتم ذلك من خلال تطبيق المعلم لمبدأ التقويم المرحلي في التعليم ، حيث يقوم المعلم بتقويم أداء الطالب خلال التعلم الذي يحدث عادة بانتظام في جميع مراحل التدريس ،فيكتب المعلم للطالب كلمة :” صح ” أو كلمة :” غلط ” بعد كل مرحلة من مراحل التدريس من خلال قياس إنجازات الطالب ومدى اكتسابه للمهارات المعرفية المختلفة ومدى تحقيقه للأهداف العامة للمنهج المدرسي، فتساعد عملية التقويم الطالب على التعلُّم، كما تعمل عملية التقويم على مساعدة المعلم لتحسين العملية التدريسية من خلال اكتشافه لنقاط القوة والضعف لدى الطالب.
11-احترام الطالب للمعلم في المدرسة Student respect for teacher) ): فكان الطالب ينظر لمعلم القرآن الكريم في المدرسة بنظرة ملؤها الاحترام والهيبة والتوقير لمكانة هذا المعلم ، فالانضباط والهدوء والتزام أخلاق التعامل المثلى والنبيلة كان سمة طالب المدرسة تجاه معلمه، ففي نهاية الدقائق الأخيرة من كل يوم دراسي في المدرسة ، كان طلاب المدرسة ذكورا وإناثا يرددون ويهتفون بصوت عال عبارات شكر وامتنان وثناء لمعلم القرءان الكريم نظير ما قدمه من جهد تدريسي في ذلك اليوم ،” كما يخصص المعلم في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم مرتين في العام الدراسي يقوم خلالها جميع الطلبة بوضع عدد من قطع النقود السوداء كل حسب حالته المادية في كمة المعلم التي يضعها على الأرض فتمتلئ بتلك النقود كتكريم على ما قام به ذلك المعلم من جهد تدريسي مقدر “(مقابلة مع والدي عامر بن سليمان الهميمي أحد طلبة المدرسة في عام 1939 م في منزله بحارة اللحمة التاريخية بولاية بهلا ).
اليوم الدراسي في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم:
” كان اليوم الدراسي في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم يبدأ بعد صلاة الظهر مباشرة ، ثم يذهب المعلم لأداء صلاة العصر في مسجد حارة صالح ، ثم يعود بعدها إلى المدرسة مرة أخرى ليكمل ما تبقى من تدريس بعض الطلبة ولحوالي نصف ساعة تقريبا ثم يختم بعدها ذلك اليوم ، ثم تغير بعد سنوات توقيت بداية اليوم الدراسي في المدرسة خاصة في فترة الإجازة الصيفية حيث تحول إلى الفترة الصباحية وحتى قبيل الظهر” ( بداية ونهاية اليوم الدراسي في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم شاهدته واقعا عيانا حينما كنت طالبا لدى المعلم سليمان بن ناصر بن سليمان المحروقي في تلك المدرسة في عام 1985 م ). وفي نهاية اليوم الدراسي وقبل ذهاب الطلاب إلى منازلهم ، كانوا يؤدون ما يعرف ب ” الرفعة ” وهي عبارة عن عبارات شكر وامتنان كان يهتف بها طلاب المدرسة لمعلم القرءان الكريم ، وكانت تعد بمثابة ختام لليوم الدراسي ، ومن بين تلك العبارات التالي : ” ، ذكر الله ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، في أيدينا قلم فضة ، نكتب به آيات الله ، وإبليس لعنه الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، آمين ، آمين ، بقدرة رب العالمين ، يا تواب تب علينا ، وارحمنا وانظر إلينا ، نحن نتوب ولا نزل ، فارحمنا عما نزل ، مولانا مولانا ، سكنا الجنانا ، في دار الشفيع ، سكان البقيع ، في أيدينا كتاب الله ، نقرأ فيه آيات الله ، محمد نبينا ، واسقنا من حوضه ، متاع في روضة ، في راعي الجنان ، معلمنا جزاك الله خيرا ، وعقب الخير جنات النعيم “( مقابلة مع والدتي التي كانت إحدى طالباتالمدرسة عام 1945م).
الاحتفالات الدينية التي كانت تقام في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم:
كانت تقام في مدرسة حارة صالح لتعليم القرءان الكريم عدد من الاحتفالات ذات الطابع الديني والتقليدي ذات الخصوصية والهوية العمانية الخالصة ،وكانت تعد تلك الاحتفالات بمثابة مناشط تربوية تقوم بها المدرسة بمشاركة المعلم والتلاميذ ،ومن بين تلك الاحتفالات :
1- قراءة التيمينة بمناسبة ختم القرءان الكريم : وتعرف التيمينة بأنها عبارة عن : ” دعاء كريم اللفظ يتلى لختم القرءان الكريم ، يتلوه المدرس أو أحد التلاميذ الذي ينتقيه ، وذلك متى ختم أحد الأطفال القرءان الكريم ” (الشرياني ،هلال بن محمد بن علي، التهلولة المباركة والتيمينتان المباركتان ، ص 1 ). والتيمينة لها العديد من المنظومات الشعرية المختلفة والتي تتضمن العديد من الحكم والمواعظ فهي نوع من الأساليب الأدبية يعرف بالشعر التعليمي ، ومن تلك المنظومات تيمينة ألقيت في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم في عام 1949 م ، بمناسبة ختم أحد الطلاب للقرآن الكريم في تلك المدرسة ، ومنها هذه الأبيات والتي قرأها على التلاميذ المعلم تيسير بن ياسر الكندي معلم مدرسة حارة صالح في تلك الفترة ، ” وهذا المعلم كان من أهالي ولاية نزوى وسكن في حارة الندوة في ولاية بهلا ، و مكث في التدريس في هذه المدرسة مدة من الزمن قبل رحيله إلى مسقط رأسه نزوى ، وبالرغم من كون هذا المعلم من الأشخاص ذوي الإعاقة حيث أن يده اليسرى كانت مقطوعة ، حيث أنه ولد بدون يد مكتملة إلا أن ذلك لم يمنعه من ممارسة مهنة التدريس ، حيث كان يكتب للتلاميذ بيده اليمنى واضعا ما يكتب عليه على يده اليسرى ، وقد عرف عنه الإخلاص والأمانة والإتقان في التدريس ” مقابلة مع والدتي التي كانت إحدى طالبات مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم، ،وقد حفظت تلك التيمينة عن ظهر قلب في عام 1949 م من لسان ذلك المعلم.
ونص مطلع تلك التيمينة التي هي بعنوان ” لله الفضل دائم علينا” هو:
لله الفضل دائم علينا
نشكره حمدا كما هــــــــــــــدانا لملة الإسلام واجــــــتبانا
علمنا من فضله الإحــــــــــسانا من آدم خلق ومن حـــــوانا
وكذلك هناك تيمينة أخرى كان يقوم بقراءتها المعلم سليمان بن ناصر بن سليمان المحروقي على طلبته في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم ، وقد قام بنظمها خليفة بن سيف بن حميد بن عبد الله القصابي البهلوي ، وقد بكتابتها عامر بن سالم بن سعيد بن خماس بن محمد بن ابراهيم الحطابي ، وكتبت نهار يوم الخميس 13 من شهر جمادى الأولى سنة 1372 ه / الموافق 28 من شهر يناير سنة 1953 م ( توجد بحوزتي نسخة مصورة من النص الكامل لتلك التيمينة والتي كانت بحوزة المعلم سليمان بن ناصر بن سليمان المحروقي ) ونص مطلع تلك التيمينة بالكامل كالتالي:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله السلام المؤمن رب رؤوف قاهر مهيمن
الرازق البر الرحيم الباري القاهر الغفار والجبار
2- قراءة التهلولة:
يعرف معجم مصطلحات الإباضية التهلولة كالتالي :” التهلولة عادة عمانية أصيلة ، وفن تقليدي ديني، يقام قبل عيد الأضحى بتسعة أيام ( الأولى من شهر ذي الحجة )، في عمان تبشيرا بقرب حلول عيد الأضحى والحج ، ومن فعالياتها أن يسير المطوع وهو يقرأ بصوت عال أبيات قصيدة من الشعر الإسلامي بلحن جميل يضفي على الأبيات مغزاها وعبرها ورونقها، وربما تبعه الصبيان تهليلا وابتهاجا بمقدم العيد “( مجموعة من الباحثين، معجم مصطلحات الإباضية ، الجزء الثاني ، ص 1041).
ويصف الباحث هلال بن محمد بن علي الشرياني ذلك الاحتفال بالتالي : ” يتجمع أطفال كل مدينة وقرية بوطننا الحبيب عمان لقراءتها ما بين العشاءين لا قبلهما ولا بعدهما يتلوها عليهم أحدهم واسع الاطلاع عليها والأكثر دراية عنها ، أما وقتها فذلك في الليالي العشر الأوائل من شهر ذي الحجة لكل عام ، أما سبب حب الأطفال للتجمع لقراءتها لا سيما في تلك الليالي بالذات ، فهو ابتهاج واستبشار بقدوم عيد الأضحى المبارك ، إذ ترى الأطفال بما فيهم الذكور على اختلاف أعمارهم يجوبون سكك الحي والحارات ، وهم يجاوبون قارئها تعبيرا للفرحة التي تغمر قلوبهم ، وقد يحصلون على بعض الهدايا ممن يرزق الأجر وقد جبلت نفسه لحب بذل التصدق ، حيث تستمر الفرحة حتى نهاية ليالي العشر الأوائل للحجة ” (الشرياني ، هلال بن محمد بن علي ، التهلولة المباركة والتيمينتان المباركتان ، ص 3 و ص 4
” وكانت التهلولة في ولاية بهلا تقام بين الصلاتين أي بين صلاتي المغرب والعشاء الآخرة ، وكانت تكتب في عدة أوراق يتم بعدها تجميعها ومن ثم لصقها لتصبح ورقة واحدة طويلة ذات شكل طولي ، وكان الورق المستخدم في تلك الفترة يجلب من الهند ، وكان أحدهم يمسك بيده سراجا يعمل بمادة الحل تراب أي الكيروسين ، وكان يغطى ذلك السراج كي لا ينطفئ بفعل تيار الهواء بورقة من أوراق شجر الموز ، ثم تتم قراءتها مرورا بعدد من الحارات القديمة في ولاية بهلا ، ويردد الأطفال بعد قراءة كل مقطع من التهلولة جملة : ” سبحان الله ولله الحمد ” ، وكانت نقطة الانطلاق عند مسجد حارة اللحمة ، ثم مرورا بعدد من الحارات ، ومن ثم يرجع الجميع إلى نقطة البداية تلك في ختام التهلولة ، علما بأن كل حارة من حارات ولاية بهلا كانت تنطلق منها التهلولة طوال تلك الليالي ” ( مقابلة مع والدي عامر بن سليمان الهميمي الذي كان أحد طلبة مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم واصفا مظاهر التهلولة في ولاية بهلا في الثلاثينيات من القرن الميلادي الماضي). و التهلولة لها صيغ متعددة في مختلف ولايات ومناطق عمان ولكن تك الصيغ تشترك جميعا بأنها تبدأ بالسبحلة وهي قول سبحان الله ( : أنظر النص الكامل لتلك التهلولة في: الشرياني ، هلال بن محمد بن علي، التهلولة المباركة ، من ص 15 إلى ص 27 ) ، ومن تلك الصيغ الصيغة التالية والتي مطلعها:
سبحان الله تعوذنا من الشيطان
سبحان الله تسمينا بالرحــــمن
سبحان الله برب العرش والأركان
سبحان الله توكلنا على الــــــديان
سبحان الله وكبرنا عظــيم الشان
سبحان الله وهو المـــــلك المنان
3- الاحتفال بيوم الزيج :
” وهو احتفال في ولاية بهلا بقدوم موسم عصر قصب السكر المحلي،” إذ يحضر كل طالب من طلاب مدرسة حارة صالح لتعليم القرءان الكريم عددا من النقود تكون غالبا بين البيستين والثلاث بيسات سوداء بالعملة المتداولة في عمان ذلك الزمان والمعروفة ببيسة السلطان فيصل السوداء وهي العملة التي أمر السلطان فيصل بن تركي بن سعيد البوسعيدي ( حكم : 1305-1331ه /1888-1913 م ) بسكها في عام 1311ه (1893 م ) في بريطانيا، وأطلق على هذه العملة اسم البيسة السوداء لأن لونها يميل إلى السواد “( الموسوعة العمانية ، المجلد الثاني ( ب- ت )، ص 637)، ، فيقوم المعلم بتجميع تلك البيسات من طلاب المدرسة، ثم يشتري بها كمية من الزيج يضعها في إناء ، و الزيج : هو عبارة عن مادة تشبه العسل ،و هو أحد نواتج عملية صناعة السكر ، ” إذ يصب السكر بعد طبخه في جرار خزفية مهيأة له ، فيترك فيها ليبرد ، ثم يتجسم السكر ويطفو عسله ، وقد يترك في الجرار لمدة يومين أو أكثر ، ثم يصب ذلك العسل الطافي من تلك الجرار إلى أواني أخرى لاستعماله كعسل ويسمى ” زيجا ” وهو يؤكل بالخبز”( العبري ، بدر بن سالم ،إرشاد الإخوان إلى معرفة الزراعة بعمان ، ص 94 )، ويصطحب المعلم معه كذلك عددا من الآنية الصغيرة لوضع كميات صغيرة من الزيج فيها ، ثم يحضر كل طالب من بيته قطعا من الخبز العماني المعمول يدويا والمضاف إليه السمن ، فيخرج الجميع في الصباح الباكر في رحلة خلوية إلى مكان بعيد ويمكثون في ذلك المكان للنزهة ويتناولون أثنائها الزيج بعد توزيع المعلم لطلبته بنين وبنات ذلك السائل المصنوع من قصب السكر في عدد من الأواني الصغيرة المصنوعة من الخزف ، فيقوم الطلبة بغمس ما لديهم من قطع الخبز في ذلك السائل ، ثم تنتهي هذه الرحلة الخلوية برجوع الجميع إلى منازلهم في عصر ذلك اليوم بهدوء وسكينة “( مقابلة مع والدتي الكريمة التي حضرت أحد الاحتفالات بيوم الزيج انطلاقا من مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم في فترة الأربعينيات من القرن الميلادي الماضي).
ختاما ، إن توثيقنا لجزء من تاريخ مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم في ولاية بهلا ليبرز الدور العماني في خدمة القرآن الكريم وعلومه الذي هو جزء أصيل من ثقافة عمان وحضارتها الفكرية ، وكما حظيت هذه المدرسة باهتمام من قبل أبنائها الطلاب ، حظيت هذه المدرسة أيضا باهتمام من قبل غير المسلمين من مختلف دول العالم خاصة من دول أوروبا وأمريكا ،فكثيرا ما قام عدد من السائحين والباحثين الأجانب بزيارة لهذه المدرسة لالتقاط صور فوتوغرافية تذكارية، وللتعرف عن قرب حول طريقة التعليم والتعلم فيها ، يشدهم في ذلك مبناها التقليدي ، وأساليب التدريس التقليدية فيها ، وتطبيقات التعلم من قبل طلابها وطالباتها الصغار، فقد كانت هذه المدرسة تمثل رسالة تسامح ومنبر إشعاع فكري ، ومصدر غني للبحث في الهوية العمانية الإسلامية الحضارية ونظام التعليم التقليدي في عمان.
*المصادر و المراجع:
1- إبراهيم مصطفى وآخرون ، المعجم الوسيط ، الجزء الأول ، مجمع اللغة العربية ، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع ، استانبول ، بدون تاريخ .
2- الشرياني ، هلال بن محمد بن علي ، التهلولة المباركة والتيمينتان المباركتان ، الناشر : مكتبة أبي الفضل ابن العباس – الطبعة الأولى 1409ه / 1988 م ،مسقط .
3- العبري ، بدر سالم بن هلال ، إرشاد الإخوان إلى معرفة الزراعة بعمان، مسقط ، 1992 م .
4- العدوي ، خميس بن راشد ، الوقف العلمي في بهلا ماضيه وحاضره ، مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية ، ، جامعة نزوى ، الطبعة الأولى 2019 م.
5- الفراهيدي ، الربيع بن حبيب ، الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب( من علماء القرن الثاني الهجري)، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ، الطبعة الأولى 1432 ه / 2011 م ).
6- مجموعة من الباحثين، معجم مصطلحات الإباضية، الجزء الأول والجزء الثاني ،وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، مسقط، الطبعة الثانية 1432 ه /2011 م .
7- مجموعة من الباحثين ، الموسوعة العمانية ، المجلد الثاني ( ب – ت ) ، وزارة التراث والثقافة ، الطبعة الأولى ، مسقط : 1434 ه /2013 م.
8- الهميمي ، زكريا بن عامر بن سليمان ، تخريج مخطوطات وقف مسجد حارة صالح ( أنموذج من نماذج تدوين الوقف في عمان ) ، عني بمراجعتها وتخريجها : زكريا بن عامر بن سليمان الهميمي ، بحث غير منشور و توجد منه نسخة مصورة بحوزتي ونسخة أخرى مطبوعة بالحاسب الآلي – 1431 ه – 2010 م .
9- الهميمي ، زكريا بن عامر بن سليمان ، سلسلة من أعلام بهلا : المعلم سليمان بن ناصر المحروقي ، مكتبة الندوة العامة ببهلا ، 2019 م .
10- الهميمي ، محمد بن سيف بن مسعود ،( مجموع وفيات ) ، أوراق مكتوبة بخط اليد ، مجموع غير منشور ، و توجد منه نسخة مصورة بحوزتي ونسخة أخرى مطبوعة بالحاسب الآلي ،1431 ه / 2010 م .
11- يوسف شوقي مصطفى ، معجم موسيقى عمان التقليدية ، إصدار : مركز عمان للموسيقى التقليدية ، وزارة الإعلام ، مسقط ، 1989 م.
- الرسائل والوثائق الخطية المكتوبة:
1- نص” التيمينة” قام بنظمها خليفة بن سيف بن حميد بن عبد الله القصابي البهلوي ، وقد بكتابتها عامر بن سالم بن سعيد بن خماس بن محمد بن ابراهيم الحطابي ، وكتبت نهار يوم الخميس 13 من شهر جمادى الأولى سنة 1372 ه / الموافق 28 من شهر يناير سنة 1953 م ، توجد نسخة مصورة منها بحوزتي.
*المقابلات والرسائل النصية القصيرة :
1- مقابلة مع والدي عامر بن سليمان بن عامر الهميمي أحد طلبة مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم في منزله بحارة اللحمة التاريخية.
2- مقابلة مع والدتي الكريمة وكانت احدى الطالبات اللائي كن يدرسن في مدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم.
3- مقابلة مع الفاضل / سالم بن المعلم سليمان بن ناصر المحروقي بتاريخ 9 من شهر جمادى الثانية عام 1431 ه الموافق 23 من شهر مايو عام 2010 م في محله التجاري الذي يقع على الشارع العام في ولاية بهلا .
4- رسالة نصية قصيرة من الفاضل / محمد بن حمد بن محمد المحروقي بتاريخ 15 من جمادى الثانية عام 1431 ه الموافق 29 من شهر مايو عام 2010 م.