الكاتب: محمد اللواتي*
أقلعت بي الطائرة التابعة للطيران العماني باكرا في يوم صحو من أيام أبريل، ورغم أن شعاع الشمس الذهبي لم يكن قد تمكن بعدُ من قهر بقايا الليل المتوزعة هنا وهناك، إلا أن الطائرة كانت تكاد أن تكون ممتلئة!
بلغتُ “دبي” وقضيتُ زُهاء ساعتين في المطار، بعدها أقلعت بي الطائرة التابعة لشركة “فلاي دُبي” إلى محطتي المسماة “كيش”، تلك الجزيرة الايرانية الصغيرة والجميلة.
جمعني متن الرحلة بإيراني في العقد السادس من عمره، كث اللحية، يبدو عليه من ملابسه وساعته الثراء. ألقينا على بعضنا التحية وتبادلنا كلمات الترحيب والاحترام، لقد كان يجيد العربية بشكل مُدهش، إلا أنها كانت غرقى في اللكنة الفارسية بحيث خُيل إلي أن الألفاظ العربية وهي تخرج من فيه كانت تعوم في مياه “فارس”!
انشغل الرجل في كتاب كان يقرأه، بينما أخذت أطالع ما لم أتمكن من مطالعته، من الرسائل المكتظة في هاتفي.
لكن الحال ما بقي على هذه الهيئة بتاتا، فلقد أخذت المطبات الجوية تتلاعب بالطائرة التي بدت وكأنها ريشة في مهب الريح! لقد سقط من يدي هاتفي في إحدى المطبات المخيفة جدا، بينما وقع كتاب جاري على وجهه في أرض الطائرة تحت المقعد. وعندما استقر الحال بالطائرة، مددتُ يدي إلى كتاب الرجل وناولته إياه، ثم التقطتُ هاتفي. كانت هذه الهزة الأخيرة جعلتنا نكف عن الانشغال فيما كُنا قبل، وبدأنا بالحديث. علمتُ من الرجل أنه يقطن “طهران”، وأنه يتاجر بين بلاده ومسقط والهند ويخطط لأن يكون له مشروع في الدقم. أثنى كثيرا على النسيج الاجتماعي العماني وعده مُذهلا وفريدا، وقال : “بين الفينة والأخرى تأتيني رسائلا على مواقع التواصل الاجتماعي بها صورا لصلاة يكون الإمام فيها من مذهب والمأمومين من مذاهب متنوعة، وصورا لزيجات يكون العريس من مذهب وقبيلة، بينما العروس من أخرى، والذي يعقد بينهما من قبيلة ثالثة ومذهب آخر. ثم توجه نحوي بسؤال فقال: “لستُ أدري ما السر وراء هذه الخصوصية رغم أن بلدكم قبيلي الطابع حتى النخاع”؟!
عندها قلتُ له: “كيش” التي نتوجه إليها الآن كان علم سلطنة عُمان يرفرف عليها يوما! لقد كُنا هنا. ألا يدلك هذا على حجم الاتساق للآخر وقبوله في دماء هذا الشعب حتى بات مُرَحَباً به في أكثر من موقع من خارطة هذا العالم”؟
نظر إلي مذهولا وهو يقول: “أأنت متأكد من معلوماتك عن الوجود العماني هنا في “كيش” الايرانية”؟ فأجبته بالإيجاب بينما يداي كانتا تستخرجان من حقيبة المحمول كتابا للباحثة “نورة القاسمية” جلبته معي وكتاب آخر للكاتب العماني “مال الله بين حبيب اللواتي” لكي أكتب له مقدمة، ودفتر به العديد من الهوامش التي سجلتها لتساعدني على إتمام المقدمة.
أشرت بأصبعي إلى فقرة كتبت فيه “القاسمية” تقول:
“لقد حكمت سلطنة عمان جزيرة “قيس” التي، وبحسب القزويني، كانت سوق التجارة الهندية الأولى، ترسو فيها سفنها، وفيها كل ما في الهند من نفيس. كل غال هندي كان يطلب فيها. لقد كان علم عُمان يرفرف عليها “. (1)
ارتسمت علامات الدهشة على وجه الرجل وهو يقول بكل هدوء: “ولكن كيش ما كانت هندية يوما”؟
قلت: “صدقت، لقد كانت الجزيرة تُدعى “قيس”، وفقا للحموي في معجم البلدان”.
أخذتُ أقلب صفحات دفتري حتى عثرت على الهامش الذي كنتُ أبحث عنه، لقد كان الهامش يقول:
“قال الحموي أن جزيرة “قيس” هي “كيش” في بحر عُمان، وهي مدينة مليحة المنظر ذات بساتين وعمارات جيدة، وبها مسكن ملك ذلك البحر “صاحب عمان” وله ثُلثا دخل البحرين”. بعدها قرأت له هامشا آخر كتبتُ فيه: “كيش: تعجيم قيس، جزيرة في وسط البحر تعد من أعمال فارس لأن أهلها فرس، وتعدّ في أعمال عُمان” المصدر : الحموي في معجم البلدان”.
والهامش الثالث: “كانت “كيش” تقع على طريق الهند والبصرة، تصل إليها السُفُن المحملة بالنفائس من الهند ومن البصرة، بعد مرورها بمسقط، هذا بعد خراب “سيراف”، فيتبادل العمانييون مع تُجارها الصفقات لتنطلق، هذه السُفُن مُجددا، بتحفها الى “مسقط” ومنها مرة أخرى الى “الهند”، ثم منها مرة تلو الأخرى إلى الى “مسقط” مجددا عبر “قيس” أو “كيش”، فإلى عدن، فإلى القلزم”.
بعد ذلك، أخذنا نقرأ معا ما كتبه “اللواتي”:
“ففي الألف الثالثة، جابت سفنها عباب البحار حاملة على متونها النحاس العماني المستخرج من صحار(2) ، هذه المدينة التي يرجع تاريخ ازدهارها إلى الألف الرابعة قبل الميلاد(3) ، وكان الفاتح الكبير “كورش” قد احتلها في حوالي 563 قبل الميلاد (4) . وصفها المقدسي بأنها مدخل إلى الصين وممر إلى الشرق والعراق واليمن .(5)
لقد كان نحاسها الخصب يذهب منها إلى بلاد ما بين النهرين. فلقد وقعت بين يدي التنقيب الأنثروبولوجي ألواحا مكتوبة بالخط المسماري يرجع تاريخها إلى 2300 ق.م. فيها مديح من حاكم العراق لسفن عُمان والتي تُعرف عهد ذاك ببلدة “مجان” .(6)
ولم تكن سفنها تحمل النحاس فحسب، بل العديد من النفائس التي كانت الارض تجود بها. فعلى سبيل التدليل، لقد كان لبانها يتخذ في مراسيم العبادات والطقوس الى درجة ان الاسكندر المقدوني ارسل قليلا منه لكبير كهنته مع توصيه تلزمه بالاقتصاد في استخدامه حتى يصل المقدوني ارض “مزون” فيجلب منها الكثير منه لضمان وجوده في كل الطقوس العبادية التي تقام على ارض بلاده “. (7)
أبعد الزميل المحترم نظارته الغليظة عن أعينه للحظات وهو يقول:
أعترف بأني ولأول مرة أقرأ عن مرحلة موغلة في القدم جدا عن سلطنة عمان، وإني مندهش للغاية. يبدو أن القبلية لم تكن يوما قد حالت دون أن تكون بلادكم شديدة المواءمة مع العالم”.
أضاءت إشارة ربط الأحزمة، تلته بيان الملاح أن الطائرة قد أوشكت على الهبوط على مدرج جزيرة “قيس” أو “كيش” الايرانية، وفعلا فبعد عدة اهتزازات ظننتُ معها أن الأجل قد لاح في أفق هذه الجزيرة الحالمة، هبطنا بسلام.
وبينما كُنا نتوجه إلى مبنى المطار الصغير، قلت لصاحبي: أعجبني نطقك للغة العربية، رغم أنه ما كان يخلو من اللكنة الفارسية، إلا أنك تتقنها حقا”، فرد ضاحكا: “بتنا نتنازل عن صميم لغتنا من كثرة الاختلاط بالناطقين بالعربية”، عندها تذكرت أمرا كنتُ قد قرأته من كتاب “القاسمية” تقول وقد أرجعت الكلام “للرافعي”:
“العربية الخالصة لا ينبغي ان تؤخذ من أزد عمان لانهم خالطوا الهندوس وغيرهم فتأثرت عربيتهم بلغات أولئك نحوا من التأثر “. (8)
لم أتمكن من أن أقول ذلك لصاحب السفر، فلقد توجه يبحث عن حقيبته، لكني كنتُ قد أيقنت كما لم أفعل من قبل، أن المواءمة جرت جريان الدماء في عروق العمانيين، ومخالطة الآخر والاتساق مع الشعوب الأخرى على نهج السلام من مقومات شخصية السلطنة التي باتت من أهم مشخصاتها.
المصادر:
1- القاسمي، نورة محمد: الوجود الهندي في الخليج العربي ص19
2- زياد، نقولا: تطور الطرق البحرية. ضمن مجلة “دراسات الخليج والجزيرة العربية” العدد 4 ص69
3- اللواتي، مال الله حبيب: ملامح من تاريخ عمان. ص7
4- اللواتي، مال الله حبيب: ملامح من تاريخ عمان، مصدر سابق. ص7
5- المصدر السابق ص8
6- المصدر السابق ص11
7- المصدر السابق ص11
8-القاسمي ، نورة محمد: الوجود الهندي في الخليج العربي ص34، مصدر سابق.
*كاتب وباحث عماني متخصص في الفلسفة الإسلامية