إبراهيم بن محمد بن حمد العيسائي
تتسم السياسة العمانية بأنها تستند إلى إرث حضاري عظيم، إستطاعت القيادة العمانية في ظل جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه، من تعزيزها وترسيخها رغم الظروف الإقليمية المحيطة لكنها ظلت تحتفظ بخصوصيتها المستمدة من طبيعة وسمات وقيم الشعب العماني، والطبيعة الجيوسياسية للسلطنة، إضافة إلى وجود قيادة حكيمة شكلت نواة صلبة لعبور موجات السلام من الشاطئ العماني إلى بحار العالم المتلاطمة بأعتى الصراعات وأعقد المشاكل.
وكعادة القيادات العمانية المتعاقبة على حكم البلاد، فإن السلطان الراحل – طيب الله ثراه، أعتبر السلام مبدأً آمنت به عمان وظلت وفية له، تعمل ليل نهار على تحقيقه لأنه لا أمن ولا رخاء ولا تطور ولا إستقرار ولا تنمية في ظل إنعدام السلام في أي بقعة من بقاع العالم، كما أن الحضارات الإنسانية والروابط بينها والتلاقح الثقافي والفكري بين الشعوب لا يمكن أن يحصل في غياب السلام والإستقرار.
ومن هذا المنطلق فإن السلطنة لم تألوا جهداً في تأييد ودعم أي مبادرة سلام تساهم في حقن دماء البشرية، وقد وقفت عمان وقفة صلبة متضامنة مع مصر بعد توقيعها إتفاقية كامب ديفيد عام 1978م مع إسرائيل، حيث رفضت مقاطعة مصر ولم تنخرط في الإجراءات التي تم تطبيقها عربياً ضد مصر إيماناً منها بأن الحروب ليست الحل الوحيد لإستعادة الأراضي المحتلة، وأن السلام هو أسهل وأقل كلفة لإستعادة الحقوق المغتصبة في حال توافرت الإرادة السياسية لدى مختلف الأطراف في الشرق الأوسط، وأظهرت الأحداث أن السلطنة كانت لديها رؤية ثاقبة أثبتت صحة نهجها وقرارها حيث أن السلام أصبح الخيار الإستراتيجي لدى العرب لإستعادة أراضيهم المغتصبة بعد مضي عقد من الزمان من توقيع معاهدة كامب ديفيد وفق مبدأ الأرض مقابل السلام.
من ناحية أخرى فإن الدخول إلى أي مفاوضات يتطلب إمتلاكك لبعض أوراق القوة حتى تستطيع فرض شروطك على الطرف الآخر وتحقيق مكاسب أكبر، وأوراق القوة العربية أصبحت ضعيفة في وقتنا الحالي إن لم تكن منعدمة، بعكس الوضع السياسي العربي في السبعينات وبداية الثمانينات الذي يعتبر أفضل حالاَ على سبيل المثال من عام 1991 عند إنطلاق مفاوضات السلام في مدريد بين العرب وإسرائيل حيث أن هذا العام شهد خروج العراق من معادلة القوة العربية بعد حرب الخليج الثانية، ودخول الجزائر في دوامة عنف أستمرت عشر سنوات (العشرية السوداء)، وهو ما أفقد الدول العربية ظهيراً قوياً كانت تستند إليه في وقت الأزمات، كما أن الوضع العربي الراهن يعاني من تفكك في بنية القوة، وإشتعال الحروب الأهلية ونشوء حالة من عدم الاستقرار في العديد من الدول العربية فالعراق لا زال يعاني من آثار الغزو الأمريكي وسوريا تعاني من حرب مستمرة شارفت عامها العاشر وليبيا لا تزال في حرب أهلية وليس اليمن عنكم ببعيد، كما أن العديد من دول العالم لم تكن لديها علاقات مع إسرائيل مثلما هو عليه الآن وكانت على قطيعة معها مثل الهند وأغلبية الدول الإفريقية، وهذه كلها أوراق قوة لدى العرب لو تم إستغلالها الإستغلال الأمثل لتمكنوا من فرض السلام العادل والشامل في المنطقة، وتحقق الإزدهار وأنصرفت الدول نحو التنمية ورفع مستوى المعيشة لشعوبها بدلاً من التوجه نحو سباق التسلح، ولتوقف العنف والحروب في المنطقة، ومع حلول السلام من الممكن تجنب الدمار الحاصل حالياً في بعض الدول العربية، لأن الفقر وضعف التنمية والمستوى المعيشي والبطالة هي أبرز أسباب إنطلاق المشروع التدميري في المنطقة العربية.
وفي سياق آخر فإن السياسة العمانية لا تؤمن بمبدأ المقاطعة وإغلاق الأبواب من اجل حل الخلافات السياسية بين الدول بل ترى أن الحوار هو الحل الأنجع لحلحلة المشاكل ولتوضيح الحقائق من أجل إزالة أي سوء فهم في العلاقات مع أي دولة إضافة إلى أن لمصر ثقل كبيرو مكانة هامة جداً في السياسة العربية وليس من الحكمة أن يتم عزلها، ومقاطعتها، لأن ذلك يساعد على زيادة الفرقة والتشرذم العربي، ولا يمكن أن تقوم للعرب قائمة بدون مصر وهو ما أثبتته الأحداث في المنطقة، فلا غنى عن الدور المصري في تحصين ودعم القضايا العربية.
إن موقف السلطنة تجاه دعم مبادرات السلام في المنطقة ينم عن فكر حضاري وإنساني متقدم، ويعبر بوضوح عن سمة مهمة من سمات الشخصية العمانية الفذة التي مارست السلام نصاً وروحاً حتى أصبح صفة ملازمة للعماني أينما حل، كما يعتبر السلام أرقى درجات الفكر السياسي، وأصعبها ولا يمكن أن يدعو للسلام ويتبناه إلا من تشبع بالوعي السياسي والحنكة والحكمة لأن شرارة الحرب يشعلها الحمقى ويطفئها الحكماء.