ناصر بن محمد الحامدي
في مطلع التسعينات من القرن الماضي كنت في مقتبل العمر وقاربت على إتمام العشرين من عمري، لم أكن أعلم وقتها ماهو الدين؟ ولا التديّن! فكل ما كنت أعلمه عن الدين هو الذهاب مع والدي لأداء صلوات الجماعة في الجامع القريب من بيتنا.
كنا نستعد لصلاة الجمعة ونذهب للمسجد مبكرا، وفي يوم من الأيام جاء إلينا خطيب جمعة عماني، وكان يرتجل الخطبة ويصرخ فينا بأعلى صوته، وقد لفت انتباهي قدرته الخطابية فتعرفت إليه، ومن هنا بدأت مشوار التدين.
أهداني ذلك الخطيب “أشرطة كاسيت” للشيخ عبدالحميد كشك والشيخ أحمد القطان، وكنت أستمع إليها بشغف حتى بدأت البحث عن خطباء آخرين، حتى وصلت إلى “أشرطة” الشيخ عائض القرني والشيخ سلمان العودة، ثم واصلت البحث عن أعمال معظم رواد ما يسمى بـ”الصحوة الإسلامية”، ومن هنا بدأ مشواري الزمني بتتبع الجماعات الإسلامية.
مررت خلال سنين عمري -التي قاربت الآن على الخمسين- بتجارب كثيرة مع أتباع كل الطوائف والفرق والمذاهب الإسلامية، كذلك تتبعت كل الجماعات الإسلامية وأيديولوجيتها وأفكارها، وقمت بالتحاور شخصيا مع كل من ذكرت سواء كان الحوار مباشرا أو في العالم الافتراضي من خلال المواقع الإلكترونية في الشبكة العنكبوتية أو مواقع التواصل الاجتماعي.
وكان من نتائج هذه الحوارات والنقاشات أنني خرجت بمفهوم أحسبه جديدا فيما يتعلق بـ”التديّن”، حيث ظهر لي أن الفكر السليم مع منهج سليم ينتج عنه سلوك سليم، وأن ما يسمى بالتسامح مع الطرف الآخر يتطلب أولا الاعتراف به وقبوله واحترام فكره مهما اختلفت معه وإن كان مختلف تماما عن قناعاتي وأفكاري.
كذلك الاعتراف بالمختلف وقبوله لا يعني التخلي عن شخصيتي وقناعاتي، وإنما أترك مساحة من الود والرحمة بيني وبينه لأننا شركاء في هذه الحياة ولا بد أن يأتي يوم نتفق فيه ونختلف.
والباحث عن الحقيقة تتغير قناعاته مع تغير الظروف والأحوال والتجارب وعمق التفكير والقراءة المكثفة ونضج التفكير بتقدم العمر، كما أن الإيمان في حقيقته قناعة شخصية تتكون مما يشاهده الشخص أو يسمعه أو يتعلمه أو يتربى عليه.
والإيمان الحقيقي هو سلوك وقيمة ومبدأ وأخلاق قبل أن يكون تطبيقا حَرفيا للتعاليم الدينية “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”.
والباحث عن الحقيقة الذي وصل إليها بعد طريق طويل من البحث والقراءة المكثفة لا يخاف على هذه الحقيقة، بل سوف يواجه بها العالم ويستطيع بسطها والنقاش حولها مع كل من يطلب حواره ومناقشته، فلا يخاف من الحوار أو المناقشة إلا من كان غير متأكد مما وصل إليه من حقيقة أو أن هذه الحقيقة ورثها عن أسلافه دون علم، أو إحاطة بها.
لقد وصلت إلى قناعة تقول: “لاتعلمني بدروس وحفظ وتلقين ماهو الدين؟ ولكن أرني ذلك الدين في سلوكك وأخلاقك”.
فالفكر أو الثقافة أو الأيديولوجيا -سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية- المغلقة على نفسها والتي لا تقبل التطور والمراجعة والنقد والتصحيح سوف تكون نهايتها التشظي والتلاشي السريع والاندثار، لأنها بكل بساطة غير قابلة للحياة، فالحياة سِمتها التغيير المستمر.
وإن سمات الحقد والتربص بالآخر وعدم قبوله ورفض كل ما يقوله أو يكتبه وتصنيفه وتنميطه، إنما هي شيمة الأيديولوجيات والأفكار السياسية لا الدينية، لأن الدين في نصوصه المقدسة العليا هو دعوة للتسامح والحوار بالتي هي أحسن وقبول الآخر ما دام مسالما لنا، بل دعوة لمشاركته في الحياة وإعطائه حق العيش بكرامة وسلام.
الاختلاف السلمي في الأفكار والمعتقدات والثقافات سمة الحياة وصيرورتها، بل هذا الاختلاف هو عنصر بقائها وديمومتها، يقول نيلسون مانديلا: “لا يوجد إنسان وُلد يكره إنسانا آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه، الناس تعلمت الكراهية، وإذا كان بالإمكان تعليمهم الكراهية إذا بإمكاننا تعليمهم الحب، خاصة أن الحب أقرب لقلب الإنسان من الكراهية”.
*الصورة من محرك البحث العالمي “جوجل”