محمد بن عيسى البلوشي*
يجتهد العالم في رصد سلوك البشر ومعرفة إتجاهاته ومخاوفه خصوصا خلال هذه المرحلة المهمة من الزمن ..كيف لا وتسارع وتيرة التغيرات التي أحدثتها جائحة كورونا أمام دول العالم أضحت درسا مهما أمام تلامذه الأزمات كي يفهموا بعمق سلوك الإنسان وتفكيره الفردي والجمعي خلال هذه المرحلة الزمنية من التاريخ.
عرف المختصون موضوع التفكير الجمعي بأنه معتقد يقود مجموعة من البشر إلى توجيه فكرة أو رأي أو سلوك محدد إلى إتجاه يعتقد في مفهوم سياسة القطيع بأنه أفضل حل أو وسيلة أو غاية.
يقول الدكتور يعقوب الجراح في مقال بعنوان (مخاطر التفكير الجمعي) نشره في صحيفة الرأي الكويتية “لقد وجد أن من أخطر الأمور على إعمال العقل والتفكير، سيطرة «العقل الجمعي» الذي يعطل «العقل الفردي» باعتبار أن العقل الجمعي يوقف العمليات الفكرية أو العقلية للفرد عند حدود الخبرات السابقة، والتجارب الماضية، والاقتداء بالماضي والتاريخ والموروثات من دون استقراء أو تحليل لقياس الأفضل والتكيف مع الجديد، بل قد يجعلها تنحرف عن الخبرات القديمة”.
وبالنظر إلى ما يتم تداولة عبر منصات التواصل الاجتماعي في العالم، والتي تعد واحدة من الأدوات الجديدة التي تعين على قياس أفكار مجاميع البشر وتطلعاتهم، نجد أن الناس يركزون خلال جائحة كوفيد ١٩ على مواضيع محدده منها ما يتعلق بشؤون متابعة جهود الدول في الجانب الصحي الأجرائي منه والوقائي، ومنها ما يتعلق بالجوانب الاقتصادية المترتبة من جراء هذه الجائحة على البلدان والشعوب، ومنها ما هو إجتماعي على مستوى الاهل والأحبة والأصدقاء والزملاء.
ما يتلمسة المتابع والمراقب لسلوكيات البشر وتفكيرهم الجمعي نحو تلك القضايا، يجد في أحيان سيلا هادرا من الآراء إلى إتجاه ما، قد يقودهم إلى ذلك إعتقادهم الداخلي، أو تخوفهم وتحوطهم لما سيأتي، أو هو دفع لبعض الأفكار، أو تأثرهم بأفكار مهاجرة، أو هو تواجدهم في ساحة (مع الخيل يا شقرا) دون أن يكون هناك بالضرورة فهم وافي بحقائق الأشياء وأبعادها.
قد يشعر البعض حرجا في قول أو كتابة رأي لا يتفق بالضرورة مع رأي التفكير الجمعي، كأن يكون له رأي محايد أو مخالف في مسألة يجد فيها المعرفة أو التجربة أو التخصص والدراية، ولا يستطيع الحديث عن تلك المعلومة مع جموع الناس أو نشرها للعامة، ولكن دعونا نتفق بأن الآراء الجمعيه لا تمثل بالضرورة آرائنا الشخصية وأفكارنا الخاصة وإحتياجاتنا الحقيقة.
يذهب البعض بأن المشكلة الحقيقة والتحدي الأكبر لدى الدول في مسألة الفكر الجمعي هو تغذية الشائعة لها، ونلاحظ من خلال الرصد أثر ذلك على مسألة التفكير الجمعي سواء في منصات التواصل الاجتماعي أو من خلال توجه الحديث الشخصي المباشر، وهذا الفكر الجمعي السلبي يناهض أصحاب الاختصاص وينعكس بالسلب عليهم، وايضا قد يناهض لتوجهات المجتمع أخذا في تشكيل منهج (إن لم تكن معي فأنت ضدي)، وهذا بلا شك توجه خطير سيقود المجتمعات إلى التظليل والتخلف ومصادرة الفكر.
هناك ربما من يفكر بأن العالم سيعيش في أزمة مع التفكير الجمعي.. ( لا) ليس الأمر إلى هذا الحد، فهذا الصراع الفكري نشأ منذ خلق الله سبحانه وتعالى للبشر، ولن ينتهي مع زوال الجائحة أو دخول العالم في أزمات أخرى، وهو حال يفسره البعض بأنه سنه كونية، وهو أمر طبيعي خصوصا في هذا الزمان الذي أضحت فيه التكنلوجيا سيده المعلومات. ولكن علينا أن نتنبه إلى التداعيات الوخيمة التي قد تحصل اذا لم يتم إدارة هذا النوع التفكير.
يبدوا أن الدول تنبهت إلى خطورة بعض الرسائل التي يقودها التفكير الجمعي، وأضحت مؤسساتها وشركاتها تنفذ العديد من الإجراءات التي تعمل على تقليل التداعيات السلبية لها، ومن أبرزها سرعة فض المغالطات والشائعات التي قد تنتشر بين جموع البشر، وأيضا توفير المعلومات الصحيحة بشكل سريع وعبر قنوات ومنصات متعددة وتفسيرها عبر مؤتمرات صحفية منتظمة، إلى جانب إشراك المحللين المعنيين في الجوانب الصحية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية لإبداء وجهات نظرهم، وتحليل وتبسيط المعلومات لزيادة رقعة الفهم والفائدة لدى العموم. هذا بالإضافة الى دور الأجهزة الرقابية والمعنية في متابعة مروجي الشائعات وملاحقتهم في إطار قانوني يضمن سلامة المجتمع ويقيه من سموم التفكير الجمعي السلبي خصوصا في مثل هذه الحالات.
إننا نحتاج في عالمنا اليوم إلى فهم عميق ولياقة عالية في التعامل مع موضوع التفكير الجمعي، خصوصا في زمن الأزمات التي تتعدد أشكالها، وأيضا في زمن جائحة كورونا والتي تعد أول أزمة تقود عالمنا وبسرعة فائقة إلى اتخاذ العديد من التدابير والإجراءات الصحية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها، وهذه فرصة سانحة كي تقوم الجامعات والكليات ذات التخصصات الإنسانية بدراسة سلوك البشر بشكل معمق في زمن كوفيد ١٩، والتركيز على مسائل التفكير الجمعي وكيفية التقليل من تداعياته السلبية والاستفادة منه في نشر التوعية الجيدة للعلوم والمعارف المختلفة.
*خبير إعلامي