الكاتب: زكريا بن عامر بن سليمان الهميمي
يمثل توثيق و تدوين تاريخ الأوبئة في عمان جزءا مهما من تاريخ عمان المجيد، فهو يساهم في الكشف عن طبيعة الأوضاع الصحية التي كانت تعانيها عمان حالها حال كثير من البلدان في العالم في تلك الفترات من التاريخ نظرا للتواصل الحضاري بين عمان والعالم ، كما يبرز الأدوار والمحاولات الصحية والعلاجية التي كانت تقوم بها السلطة في عمان للحد من انتشار الأوبئة في عمان ، إضافة إلى جهود عدد من الأطباء الغربيين من المبشرين الذين نذروا أنفسهم للتصدي للأوبئة وتأثيراتها السلبية على صحة السكان في المجتمع العماني آنذاك، وهذه اللمحات التاريخية بالرغم من قلة المصادر التي تحدثت عنها جديرة بالتدوين والتوثيق والنقل سواء أكانت روايات تاريخية شفوية متناقلة من التاريخ الشفهي لعمان أو مكتوبة ومدونة في المراجع التاريخية ، وتحاول هذه الصفحات استجلاء نماذج موثقة و مدونة من تاريخ الأوبئة في عمان وبالتحديد في ولاية بهلا التاريخية في محافظة الداخلية ، وسنكتفي في هذا المقال بعرضها كونها أحداث تم تدوينها في بعض المراجع مع إرجاء الحديث عن روايات التاريخ الشفهي التي تتطلب المزيد من البحث والتمحيص ، ونسرد في هذه الصفحات حادثتين تم تدوينهما في بعض المراجع المكتوبة تؤرخ لانتشار وباء الطاعون و و باء الكوليرا في ولاية بهلا ، الأول من مرجع من المراجع العمانية ، والثاني من مرجع أجنبي.
الحدث الأول: إنتشار مرض الطاعون في ولاية بهلا في عام 1328 ه /1910م:
” تطالعنا إحدى الروايات المدونة أن وباء الطاعون انتشر في ولاية بهلا مما أدى إلى وفاة ابن قاضي الولاية في بداية الوباء ثم قضى على قاضي الولاية في نهايته في تلك الفترة فكان آخر من مات بسببه من أهالي الولاية، والقاضي هو الشيخ سليمان بن ناصر بن سالمين بن حميد الخليلي، وهو أحد الشخصيات الفقهية التي ظهرت في بهلا أواخر القرن الثالث عشر الهجري وبداية القرن الرابع عشر، وهو من سلالة الخليل بن شاذان الخروصي الذي انتسبت إليه الأسرة الخليلية في بهلا، ويعد سماحة الشيخ العلامة الجليل أحمد بن حمد بن سليمان الخليلي المفتي العام للسلطنة حاليا – حفظه الله – حفيدا مباشرا للقاضي سليمان بن ناصر الخليلي البهلوي، والقاضي الخليلي شخصية علمية تعدت المحيط المحلي إلى خارجه، فله علاقات علمية مع بعض العلماء غير العمانيين ، منهم القطب محمد بن يوسف أطفيش الجزائري (ت: 1914 م )، تولى الشيخ سليمان بن ناصر الخليلي القضاء على بهلا زمن حكم الشيخ ناصر بن حميد بن راشد العطابي الغافري الذي حكم ولاية بهلا مدة من الزمن حتى انتهت فترة حكمه في الثالث من شهر شعبان سنة 1334 ه على يد الإمام سالم بن راشد بن سليمان الخروصي (1331- 1338 هـ/ 1913-1920م) وكانت وفاة الشيخ ناصر بن حميد العطابي في 29 من شهر شوال عام 1348 ه / الموافق 27 من شهر فبراير عام 1930 م “، وكان الشيخ القاضي سليمان الخليلي مرجعا لأهل بهلا وما حولها في الفتوى والقضاء وكتابة الصكوك الشرعية، حتى توفي قبل دولة الإمام سالم بن راشد بن سليمان الخروصي بثلاث سنوات تقريبا إثر طاعون أصاب بهلا أي حوالي سنة 1328 ه /1910 م.
و يسرد سماحة الشيخ العلامة الجليل أحمد بن حمد بن سليمان بن ناصر الخليلي المفتي العام للسلطنة – حفظه الله – قصة ذلك الوباء الذي حدث في الولاية مبينا موقف جده القاضي و حال الفئة الحاكمة للولاية في تلك الفترة و موقفها من ذلك الوباء ونهاية الوباء ما نصه: ” وقد كان جدي قاضيا ورعا شديدا في ذات الله تعالى، يقارع أهل الظلم والفساد، ولا يخشى في الله لومة لائم ، وكانوا يجدون منه بأسا عظيما ، وقد كبتهم الله عنه ، ويبدو أنهم كانوا – مع شدته عليهم وعدم مهادنته لهم – يحترمونه ويجلونه ، وقد وقر في نفوسهم إكباره وتعظيمه، فعندما وقع الطاعون ببهلا وقد بدأ بابنه وأخذ يحصد الناس ، جاؤوا يهرعون إليه، ومن قبل كانوا يعملون السيئات، يترجونه أن يخرج بهم للصلاة، عسى الله أن يرفع عنهم البلاء، ويكشف الضراء، فأجابهم متعجبا برباطة جأش وثبات جنان : كيف أخرج بكم لدفع البلاء وأنتم مصدر البلاء كله ؟ فظلمكم وجوركم هو سبب البلاء، قالوا : إنا تائبون راجعون إلى الله، فأجابهم : كيف تتوبون ؟ وهذه ضرائبكم أرهقت الناس وأثقلت كواهلهم ؟ وقد كان أؤلئك يأخذون من أصحاب الأموال ” خمسين قرشا ” يسمونها ” المؤدى ” وقد صاح الناس منها ، فقالوا : نتوقف عنها ونعفي الناس منها ، فتوبهم وخرج إلى المصلى وصلى بالناس ، ودعا وتضرع ، فرفع الله البلاء ، وكان الشيخ رحمه الله آخر من حصد الطاعون “.
الحدث الثاني: إنتشار مرض الكوليرا في ولاية بهلا عام 1329ه / 1911 م من مذكرات المبشر و الرحالة والطبيب الأمريكي بول ويلبرفورس هاريسون:
الطبيب بول ويلبرفورس هاريسون الذي ذكر قصة بها ظهور وباء الكوليرا في عمان (1883-1962م ) ، هو طبيب ورحالة أمريكي تخرج من المدرسة الطبية بجامعة جون هابكينز ( Johns Hopkins School of Medicine) سنة 1909 م في الولايات المتحدة الأمريكية، وعمل ضمن الإرسالية الأمريكية في عمان من 1909 إلى 1954 م ، وكان كثير التجوال في عمان فقام بعدة رحلات ذات أهداف تنصيرية وطبية ، و نشر رحلاته هذه في كتاب بعنوان :” رحلة طبيب في الجزيرة العربية ” Doctor in Arabia صدر في نيويورك سنة 1940 م ، وقام بعدها بترجمة هذا الكتاب إلى العربية المترجم محمد أمين بن عبدالله البستكي ( 1333-1402 ه/ 1915- 1982م ) و قامت وزارة التراث والثقافة في سلطنة عمان بطباعة هذا الكتاب عام 1401 ه /1981 م ، وكتاب:” رحلة طبيب في الجزيرة العربية عبارة عن مذكرات قام بتدوينها المؤلف عن رحلاته الطبية ونشاطاته التنصيرية والمصاعب التي واجهها والأوضاع الصحية السائدة في دول الخليج العربي بشكل عام وعمان بشكل خاص ، ونطالع في كتاب الطبيب بول هاريسون في مقال تحت عنوان :” عمان الداخلية ” حكاية قد تبدو طريفة بعض الشيء عن وباء الكوليرا الذي اجتاح ولاية بهلا ،- وتعود هذه الحكاية التي ذكرها الطبيب في مذكراته إلى عام 1329ه / 1911 م حيث قام الطبيب هاريسون بجولة في محافظة الداخلية من عمان استمرت أربعة أشهر و صل فيها إلى مدينة بهلا ( الحسيني، الحملات التنصيرية ،ص 233) ،ومما يدل على ذلك أن عام 1911م كان من بين الأعوام التي عاشها المؤلف في عمان وقام فيها بعدة رحلات والتي تنحصر بين 1909 و 1954م، كما ” تحدثت عدد من التقارير الصحية التي أمكن جمعها عن وباء الكوليرا عن حدوث هذا الوباء في عُمان بالتحديد في الأعوام: 1821م وهذا العام كان فيه الاجتياح الأول لوباء الكوليرا في عمان ، والاجتياح الثاني حدث عام 1865 م ، و الاجتياح الثالث حدث عام 1899 م ،والاجتياح الرابع وقع عام 1904 م ، والاجتياح الخامس لوباء الكوليرا في عمان حدث عام و1910م ” ، ولقدد تحدثت تقارير الصحة العامة عن انتشار وباء الكوليرا في عُمان تحديدا في عام 1910م، فقد أفاد القنصل راي بتسجيل 19 حالة وفاة بالكوليرا من أصل 25 حالة مصابة بالوباء ظهرت خارج مسقط حتى 10 أكتوبر من العام نفسه، وبين 19 و25 أكتوبر ظهرت الكوليرا مجددا بعد أن اختفت فترة مخلفة 7 حالات وفاة، وفي 5 نوفمبر أبلغ عن 8 حالات وفاة بالكوليرا في مسقط، كما سجلت حالات إصابة في قرى داخل عمان مثل سرور، ،مما يشير إلى أن المرض لم يعد محصوراً في المنطقة الساحلية و إنما امتد إلى المناطق الداخلية في عمان في تلك الفترة “-، وبالعودة لهذه الحكاية عن وباء الكوليرا فقد سرد الطبيب بول ويلبرفورس هاريسون في مذكراته تلك حجم معاناة السكان جراء الإصابة بوباء الكوليرا، ومقترحاته الصحية الوقائية التي قدمها للشيخ الذي كان يحكم المدينة آنذاك لمكافحة انتشار ذلك الوباء ، وموقف الشيخ الحاكم للمدينة بتطبيق إجراء جزائي رادع و مشدد عقوبته الإعدام لكل من لا يلتزم بالإجراءات الطبية الوقائية التي حددها الطبيب، تلك الإجراءات الوقائية العملية التي تكللت في النهاية بالنجاح و ظهرت نتيجة ذلك في توقف هذا الوباء ، وفي ذلك يقول ذلك الطبيب ما نصه: “و قبل القيام بزيارة بهلا – وهي إحدى المدن الداخلية الكبيرة – أحرزنا شهرة لا نهاية لها ، وكان ذلك عندما قمنا باستئصال و رم رهيب في حجم كرة التنس من رأس رجل ، وقد قمت بإجراء العملية في الهواء الطلق تحت شجرة ، و قد قمت بإجراء عدد من العمليات أصعب بكثير من تلك العملية دون أن أحصل على أية شهرة على الإطلاق ، و لكن الأقدار كانت إلى جانبي ذلك الصباح ، فرغم أن الجمهور كان قليلا إلا أنه كان ممتازا، و لا شك أنه كان من بيئة مندوب للصحافة ، رغم أنني لم أعرف شخصيته حتى لحظتنا هذه ، و لانتشار شهرة هذا العمل العظيم ، رحبوا بي في المدينة ( بهلا ) بإطلاق النار من مدافعهم ، و كأنني زعيم زائر”.
“وفي رحلة من هذه الرحلات قمنا بزيارة لمدينة تتصارع مع و باء الكوليرا اللعين ، و في الوقت الذي بدأنا فيه هذه الجولة كان الوباء منتشرا و مخيفا ، و كان أنين المحتضرين ومعاناة المرضى بالمغص قاسي تصل إلى أسماعنا بصورة مستمرة ، ولكن الإجراءات الخاصة بالحجر الصحي و المتبعة الآن أدت إلى إزالة الكوليرا من عمان” . ” و نعود إلى رحلتنا ، وقتها طلب منا الشيخ الحاكم إبداء المشورة قائلا:” كيف يمكن معالجة هذا الوباء ؟ فأخبرته أنني أعرف كيفية إيقافه ، و لكني قلت له : إن ذلك لن يجدي ، لأن تعليماتي ستذهب أدراج الرياح ، و قد أثاره ذلك إلى الحد الذي دفعه إلى أن يصدر أمرا قائلا ، إن ما سيأمر به سينفذ حتى لو اقتضى الأمر إقامة صفوف من المشانق لتنفيذه ، فقلت له :” حسنا جدا ” رغم أنني في قرارة نفسي كنت أعلم أن ذلك لن يجدي ، و شرحت بالتفصيل أن هذا المرض نتيجة لجراثيم ملتوية ، لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ، و لكن أمكن مشاهدتها عن طريق الميكروسكوب، و أن هذه الجراثيم تأتي من نفايات المريض بهذا الوباء ، و تصل عن طريق المياه أو الطعام إلى الجهاز المعوي لشخص آخر فيصاب بالمرض، و أن كل ما نحتاج إليه من أجل منع حدوث إصابات جديدة هو أن لا نشرب شيئا سوى الماء المغلي ، و أن لا نأكل شيئا سوى الطعام المطهي . و قد قام الجنود بتنفيذ هذا الأمر الذي صدر بتهديدات منذرة ، منها أنه إذا تم ضبط أي شخص يشرب ماء غير مغلي فإنه يعدم رميتا بالرصاص عند شروق الشمس ، و بذلك توقف الوباء ، كما لو كان قد استؤصل بفأس، و لم تظهر أية حالة جديدة أخرى”. هذا و لقد توفي الطبيب الأمريكي بول هاريسون الذي وثق حادثة الوباء تلك في خريف عام 1962م في منطقة بني فارمس في فلوريدا في الولايات المتحدة الأمريكية، ختاما كانت تلك صفحات من تاريخ الأوبئة في عمان تمثل جزءا من سجل تاريخها الصحي، حفظ الله عمان ، وحفظ سلطانها المفدى وشعبها الوفي من كل سوء ومكروه.
ملحق صور:
صورة للطبيب بول هاريسون في إهداء خاص له في التقرير السنوي لمجلس الإرسالية العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية صدر عام 1963، تكريما وتقديرا للخدمات الطبية التي قام بها.
الطبيب بول هاريسون باللباس العربي
غلاف كتاب :”رحلة طبيب في الجزيرة العربية، (النسخة العربية المترجمة ) للدكتور هاريسون الذي تحدث فيه عن وباء الكوليرا في عمان