سمية السليمانية*
عندما كنت في المرحلة الابتدائية كثيراً ما شعرت بالضجر بعد أن أنهي ساعات الدراسة في إحدى مدارس نزوى السامقة قبل أكثر من ثلاثين عاماً، كانت أدواتي في المرحلة الابتدائية لا تتعدى الكتاب المدرسي والدفتر والأقلام والألوان الخشبية والممحاة والمبراة والمسطرة، لم أكن أملك سبورة خاصة أو دباسة أو خرامة في حافظة مزركشة ومطرزة ولا غرفة خاصة أشكلها وتشكلني. كنت أملك ذلك الكنز المفقود الذي أضاعه البعض في هذا الزمان بحجة الوقت وكثرة الانشغالات لكني أعتذر عن البوح به حتى أنهي مقالتي.
كانت البيئة من حولي جاذبة تسرب إلى الروح مزيجاً عبقاً من الروائح والمناظر والأصوات حد الذوبان، حيث خرير مياه الفلج وحفيف صوت الزورورائحة حرق هول النخيل ونقيق الضفادع أحيانا، والعين كلما غارت يمنة ويسرة تجد ما يسر الناظرين من أشجار اللومي “الليمون” والأمبا “المانجو” وصفوف أشجار النخيل الباسقة، وفتحات جدران الطين التي يخترقها الضوء محدثاً في النفس شعوراً بالبهاء، في احتواء عظيم للذاكرة تتأصل يوماً بعد يوم في حب الوطن وما عليه ومن فيه. حينها صادقت أوراقي لأسجل عليها ذلك الجذب الساحر وأصف في قلبها الأبيض كم للطبيعة من جمال آخاذ.
دعونا من الأمس وشاركوني يومي مع صغيرتي التي لم تتجاوز الخامسة من عمرها ضمن ثلاثي فارض نفسه لا محالة: هي ونحن والتطبيقات الالكترونية العديدة والبرامج الكثيرة في زخم غير عادي حتى أصبحت أشفق عليها من هذا السحب التقني الجارف. قد يقترح لنا أحدكم جدولاً ينظم يومها في استعمال تلك البرامج والتطبيقات، وقد تطلب منا إحدى الأمهات أن نشارك الطفلة متعة الاطلاع والتفاعل مع الأنشطة التقنية، وقد يرشح لنا متخصص برنامجاً وجده مناسبا للأطفال، يؤسفني القول بأن كل هذه الأقوال حاضرة وتنفذ بقدر ولا ندعي فيها المثالية ورغم ذلك عندما نتوقف تصرخ مارية في حالة هستيرية “ملل….ملل”.
لا تفتر حدة هذا الصراخ إلا بأنشطة تستعمل فيها يديها عندها تتضافر لديها حاستي البصر واللمس وتتحدث عن النشاط بكل طلاقة وسعادة حتى تنفذ أدوات الاستفهام التي تستخدمها وهي تسأل عن كل صغيرة وكبيرة. وكم يتضاعف حجم سعادتها إن تحركت أربة أنفها لتشم ما طبخت. لجأنا إلى أنشطة عملية مثل التلوين وتنظيم الأدوات الخاصة وتنظيق مكان الجلوس وتشكيل عجينة البيتزا والتمثيل والإلقاء، في هذه الأحايين فقط نجد مارية مفعمة بالحب والنشاط والبهجة والهدوء.
أعلم أن هناك من الآباء والأمهات من يبزنا في هذا التأطير التربوي ولكن في الحقيقة قادني هذا الأمر إلى التفكير في الفلسفة التربوية والتنظيم المنهجي الذي يتبعه واضعو البرامج الإلكترونية ومعدو التطبيقات المختلفة وإلى تعرف أنواع البرامج والتطبيقات وغاياتها وعلاقة ذلك بالمنهج التربوي الذي تتوافر فيه ضمانات تربوية وتعليمية في تشكيل أطفالنا من الناحية الفكرية والثقافية والجسدية والدينية والروحية، فكانت النتيجة أننا باعتبارنا أولياء أمور نقع في ذلك بين الضرورة والعشوائية.
إن العشوائية التي نستعمل فيها التعليم التقني فيها من الفقد غير المقبول لطاقات أبنائنا وإمكاناتهم وقدراتهم ما فيها، حيث يوجد فرق شاسع بين أهمية التعليم التقني الذي أتفق في ضرورة وجوده وبين العشوائية التقنية في الاستعمال التي قد تؤدي إلى تفتيت الإطار المنهجي البنائي المضمون لتربية أبنائنا وتعليمهم.
إن سباق المؤسسات المختلفة في إنتاج البرامج التعليمية التقنية وغير التعليمية في عالم التربية ينطوي على مخاطر جمة ما لم تكن ضمن الإطار المنهجي المدروس. وإذا ما تكلمنا عن العشوائية في الاستعمال علينا أن لا نهمل الحديث عن أهمية عملية الفحص لمحتوى تلك البرامج والتطبيقات ومكوناتها قبل عرضها على الطفل وهو دور الوالدين في حالة الحجر المنزلي الحالية وأما في المجمل فهي عملية مشتركة بين المدرسة والبيت.
عودة على بدء أود القول أن الأمس يعيد نفسه بشكل أو بآخر وتظل حاجات الإنسان هي ذاتها على مر الزمان. إن أطفالنا في احتياج مستمر إلى الاحتواء والحب والحنان بل المشاركة والسماح للطاقات بالظهور وسيسهم هذاعلى المدى البعيد في تحقيق التواصل والتفاهم من أجل أن تبقى الأسرة هي نبض الاستقرار وملجأ الاطمئنان بعد الله سبحانه وتعالى في عالم متغير يتقارب ويتباعد كما هو حادث الآن ؛ ليبقى أعضاؤها جسداً واحداً متماسكاً مهما انتاب المحيط الخارجي من ابتلاءات ولكم أن تتخيلوا ملامح ذلك العطاء الفطري وهذا القصد التربوي، ذلك كان كنزي العظيم منذ أكثر من ثلاثين عاماً وما زال.
*استشارية في مناهج العلوم الإنسانية
sumayaalsulaimani@gmail.com