محمد المبارك خالد التيرابي*
يخيل إلى الكثير منا أن رقي الأمم الغربية المادي سرمدي وباقٍ، وأن قوتها قد بلغت من الرسوخ والشدة مرحلة لا يمكن استئصالها معها. فنظرة سريعة إلى الأمم التي كانت غالبة في التأريخ كفراعنة مصر، وأمتي عادٍ وثمود، والكلدانيين في العراق، والغزاة اليونانيين العالميين، وملوك الروم، والجنود التتر المخربين والبرتقاليين والإنكليز والفرنسيين وغيرهم… كل أولئك مثلوا دور القوة والسيادة على مسرح البسيطة، فأين هم الآن؟!!
يقول الشاعر:
لكل شيء إذا ما تم نقصانُ
فلا يغرَّ بطيب العيش إنسانُ
هي الحياة كما شاهدتها دولٌ
من سرَّه زمن ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تُبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شانُ
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ
وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ
وأين ما شاده شداد في إرم
وأين ما ساسه في الفرس ساسان
وأين ما حازه قارون من ذهبٍ
وأين عاد وشداد وقحطان
دار الزمان على دارا وقاتله
وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ!!!
لقد كانت تلك الأمم الغالبة أقوى وأغلب على غيرها من الأمم، يقول الله تعالى: “كانوا أشد منهم قوة، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها”(١).
لقد غرتها النعم وفتنتها الرفاهية، وأخذ منها الزهو والمكر كل مأخذ: “فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنَّا دمرناهم وقومهم أجمعين”(٢). صدق الله العظيم.
يقول الإمام أبو الأعلى المودودي: ” إنا نجد صورة متكاملة لتناوب هذا الإقبال والإدبار على الأمم في قصة آل فرعون وبني إسرائيل، وذلك أن أهل مصر لما وصلوا إلى قمة الرقي، أخلدوا إلى الظلم والعدوان، فادَّعى كبيرهم فرعون “أنا ربكم الأعلى” وجعل يضرب وينتقم من أمة ضعيفة -تُدعى بني إسرائيل استوطنت أرض مصر أيام النبي يوسف عليه السلام، فلما بلغ عدوان فرعون والأمة المصرية نهايته، قضت مشيئة الله أن تخضَّد شوكتهم، وترفع تلك الأمة المستضعفة”.
يقول الله تعالى: “وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها”(٣). وفضلها على جميع أهل الأرض “وفضلناكم على العالمين”… ولكن هذه الأفضلية والوراثة كانت منوطة بالعمل الصالح، فلما عصى بنو إسرائيل ربهم، بتحريفهم كلام الله ونقضهم ميثاقه وأكلوا السحت وأموال الناس بالباطل ونقضوا العهود والمواثيق واستبدلوا بالحق الباطل، واتبعوا سبيل الكذب والخيانة، وأصبحوا عبدة الفضة والذهب والطاغوت، طماعين جبناء، محبي للراحة والدعة والرغد، وقاتلوا من بُعث إليهم من الأنبياء، وعادوا القيِّمين على دعوة الحق، وأعرضوا عن أئمة الهدى، وأطاعوا أئمة الشر والضلال، ازورَّت عنهم عناية الله، ونُزعت من أيديهم وراثة الأرض، وجُعلوا رمية لسهام جبابرة العراق واليونان والروم، وأُخرجوا من ديارهم ليتشردوا في أقطار الأرض في حال بؤس وشقاء، قال تعالى: ” وضُربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله”(٤). صدق الله العظيم.
وسنة الله هذه نراها تتكرر اليوم أمامنا، فوبال الأعمال السيئة الذي ذاقته الأمم السالفة قد حاق اليوم بالأمم الغربية، فآفات الحرب العالمية، ومشكلات الاقتصاد الربوي، وازدياد البطالة، وانتشار الأمراض الفتاكة، وتفسخ النظام العائلي، كل تلك الأعمال آيات بينات لو تأملوها لعلموا أن كل ذلك إنما هو ثمرة ظلمهم وعتوهم واتباعهم للشهوات وإعراضهم عن الحق”!!!(٥).
وقد ظهرت جليًّا بوادر “الانتحار الموعود” في الدول الغربية. فالذي يعايش واقع الغرب ويدرسه دراسة متأنية عن كثب يدرك خواء الحياة المريرة برغم جمالها الأخاذ وإيقاعها السريع وكمالياتها المستحدثة، ولا شك أن الإنسان الغربي في الماضي -برغم تأخره تقنيًّا- لم يكن أكثر شقاء من اليوم، والشقاء والسعادة أمران نسبيان، فكم من سعادة في الأكواخ، وكم من شقاء في القصور، فنهاية الدول والإمبراطوريات العظيمة أمر مفروغ منه يحدثنا به التأريخ، وللنهاية أعراض وأسباب منها الانغماس في الترف والانشغال بمباذل الحياة وغياب الحياء والعفة والأمانة والنخوة والغيرة، وبالتالي غياب المقدرة على مواجهة الصعاب أخلاقيًّا وجسديًّا حيث ينجم عن ذلك فتور في الأداء واضطراب في تقدير الأمور، وقلة في الإبداع الإنساني وليس الآلي!!!
والمثل الإيطالي يقول: Si sali si accende, كما ترتفع تنزل، ويقابله عندنا المثل العربي ” ما طار طائر وارتفع إلا كما طار وقع، وصدق المولى عز وجل إذ يقول: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”. كما أن قصص عاد وثمود وإرم ذات العماد وأصحاب الأيكة وأصحاب الفيل، وقوم نوح والفراعنة والدول العظمى التي عاشت قديمًا كلها مذكورة في القرآن على أنها حضارات سادت ثم بادت وتجبَّر أهلها، فمنهم من أخذه الله أخذ عزيز مقتدر بالخسف والصيحة والريح الصرصر العاتية والحاصب والطوفان والغرق. يقول الله تعالى: “فكلًا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون”(٦).
لقد نسيت الدول الغربية في غمرة انتشائها بالكشوفات والإنجازات العلمية الحديثة أن لله سبحانه وتعالى جنودًا وأسلحة دمار هي الأشمل والأفتك والأسرع، ومنذ آلاف السنين “وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير”(٧). وصدق جل جلاله إذ يقول: “كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر”( ٨).
لم يكن الإنسان في الماضي أكثر شقاء من اليوم، فقد تضاعف معدل الإلحاد والكفر بأنعم الله، وزادت النزعة العدوانية والجريمة والأمراض النفسية. لقد سيطرت على الغرب نزعات الأثرة والتنافر والمسابقة والحرص والطمع والعنصرية ذات الوجه القبيح وأشكال الاستعمار والاستغلال وازدراء الآخرين والتدخل في شؤونهم واستعبادهم…أفلا ينضوي ذلك تحت ما يعرف بالانتحار الموعود جزاء وفاقًا وفق سنن الله الذي يقول في محكم تنزيله: “وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم”(٩). صدق الله العظيم. نعم إنها سنن الله في أرضه، والله تعالى يُمهل ولا يُهمل. ولهذا ولذاك قد تفرق الغربيون شيعًا مختلفة “أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض”(١٠). فهم يهيئون أنفسهم لانتحار عظيم لا يرتكبونه على مهل، بل يُساقون إليه سوقًا!!!
كتب مستر سرجل نيومان (Sergel Newman) الذي كان عضوًا في الهيئة الجندية الأمريكية سابقًا… كتب مقالًا عن صورة الحرب الآتية يقول فيه: “إن الحرب الآتية لن تقتصر على الجنود المتحاربين، بل ستكون إفناء عامًا لا تنجو منه النسوة ولا الأولاد، وذلك أن عقول العلماء الكيمياويين قد نزعت وظيفة الحرب من الجنود الإنسانيين ، وفوَّضتها إلى المركبات الكيماوية، وآلات الحرب التي لا روح فيها ولا شعور، والتي لا تميز بين محارب وغير محارب. فالآن لا يتحارب الفريقان في الميادين أو في القلاع، بل ستقع حربهما في المدن والقرى، لأن قوة العدو الأصلية -حسب النظرية الجديدة- لا تكمن في جنودها، بل في بلادها المعمورة، وأسواقها التجارية، ومصانعها، فالآن ستُرمى كل هذه الأماكن من فوق، وستنفجر عنها المواد الحارقة والغازات السامة وجراثيم الأمراض التي تهلك ملايين من الجموع الإنسانية”(١١).
ولهذا فلا عجب أن يتوجس علماء الغرب ومنظروه خيفة من انفلات الحياة في ظل الحضارة الغربية، فكلما تقدم الإنسان تقنيًّا اقترب إلى حافة الهاوية… الهاوية التي حفرها لنفسه ولغيره من أبناء البشرية جمعاء، بفعل الوسائل العلمية “المتقدمة”. لقد أدرك علماء الغرب أن إنسان هذا الزمان لم يعد أكثر سعادة مما كان عليه في الغابر، لأن هذه الأمور كلها كما قد تزيد في سعادته ورخائه، قد تزيد أيضًا في نكبته وهلاكه!!!
والحياة الغربية هي دعوة لاحتساء اللذات بأي أسلوب وإلى حد الإفراط، واحتساء اللذات هذا يولد الأنانية والتسابق، فمُدمِن المخدرات يريد الحصول عليها مهما يكن ومهما يكلفه ذلك حتى لو اضطره إلى السرقة أو النهب المسلح أو القتل، فلابد من الحصول على المال وبأي وسيلة، وبسرعة فائقة، فالوقت لا يسمح بالانتظار حتى لا يدخل في غيبوبة جراء حاجته الماسة إلى إشباع رغائبه!!!
وينطبق ذلك على مدمني الميسر والخمر، وطالبي اللذة والمتعة الرخيصة، وكذلك المتنافسين على حب المال حبًّا جمًّا مهما كانت الوسائل!!!
ففي ظل الحياة المادية التي تُنكر الغيبيات واليوم الآخر، لا يبقى للإنسان الغربي إلا أن يُسرف في أسباب المتعة ولو كان ذلك على حساب صحته، وحتى لو أفرز الإسراف أمراضًا خبيثة لا يمكن علاجها مطلقًا!!!
فما ينقل عن حياة الغرب شيء، والواقع شيء آخر، فكثير من أبناء المسلمين يغترون بما يسمعونه ويروْنه من صور حضارية جذابة عبر وسائل الإعلام التي تنقل أجمل الصور، وتخفي الصور البشعة وراء قناع لا يعرفه إلا من خبر الحياة الغربية عن كثب، لا عن كتب، فليس من رأى كمن سمع. يقول الله تبارك وتعالى: “ولا ينبئك مثل خبير”(١٢).
فكلما مكث الإنسان في الغرب وقتًا طويلًا ازداد كآبة وتضجرًا من نظام الحياة الرتيب ذي النسق المضطرد، برغم تقدمه، إذ يفتقد المرء ما يعرف بلذة الحرمان. فكل شيء موجود حوله من غير تعب يستمرأ معه طعم اجتهاده ومثابرته!
نعم إنها سنة الله في أرضه، فما من حضارة نمت وترعرعت إلا بلغت مرحلة المحاق، فليس من الغريب أن يخرج علماء الغرب -من المعتدلين والمنصفين- على الحضارة الغربية، أولئك الذين يرون الأمور بمنظار صحيح الرؤية عن دراسة ودراية حيث يتنبأون لها بالبوار ثم الدمار، والذي يستغرب هذا الأمر منَّا كأنه لم يطلع على كتاب الله الذي أبان حال الأمم الغابرة، التي بعد أن أصابها الغرور وطغت وتكبرت أتاها أمر الله الذي لا رادَّ لأمره ولا معقب لحكمه.
نسأل الله أن يفطن المسلمون لدورهم المرتقب في المستقبل المنظور للقيام بمهمة انتشال الإنسانية من ربقة الفسوق والجنون والطغيان!!!
………………..
١)الروم: ٩
٢)النمل:٥١
٣)الأعراف:١٣٧
٤)البقرة:٦١
٥)أبو الأعلى المودودي -نحن والحضارة الغربية -ص٧٤ – ٧٥
٦)العنكبوت:٤٠
٧)الأنعام:١٨
٨)القمر:٤٢
٩)محمد:٣٨
١٠)الأنعام:٦٥
١١)أبو الأعلى المودودي – المصدر السابق – ص٧٨
١٢)فاطر:١٤
*خبير استشاري في التدريب التطويري الذاتي والمؤسسي، والإعلامي التطبيقي (بخبرات دولية)
taheel22@gmail.com