الكاتب: بدر بن سالم العبري
أبو حامد محمد بن محمد الغزاليّ [ت 505هـ] فيلسوف ومتصوّف، له مائتي مصنفا، أصله من طوس بخراسان، وسمّي بالغزاليّ نسبة إلى صناعة الغزل، رحل إلى نيسابور ثمّ إلى بغداد فالحجاز فبلاد الشّام فمصر، ثمّ عاد إلى بلده[2].
والغزاليّ شافعيّ المذهب، عاش في عهد الدّويلات الّتي قامت نتيجة ضعف الدّولة العباسيّة، ولمكانته العلميّة والفلسفيّة ولاه نظام الملك[3] [ت 485هـ] التّدريس في مدرسته ببغداد.
وفي عصره كثر الجدل حول الغناء والمعازف لسببين: الأول صناعة الرّوايات المحذرة من الغناء والمعازف، بجانب روايات الزّهاد والقصاصين والوعاظ، وفي المقابل رؤية الفلاسفة الّتي تنظر إلى المعازف والغناء كفنون علميّة لا علاقة لها بالحلّ والحرمة.
لهذا سيكون هنا فريقان: فريق ينظر إلى الغناء والمعازف بنظر سلبيّة كبيرة، فمنهم من مال إلى تحريم الاثنين مطلقا، ومنهم من رخص في بعض الآلات، ومنهم من رخص في الغناء دون المعازف[4]، وفريق يرى أنّها تدور وفق العلّة، فإن استخدمت في خير فخير، وإن استخدمت في شرّ فشرّ.
وبما أنّ أبا حامد الغزاليّ فقيه وفيلسوف في الوقت نفسه؛ لهذا ستكون له رؤيته الخاصّة، فهو يرى أنّ الغناء أساسه صوت طيّب، مفهوم المعنى، والطّيب ينقسم إلى موزون وغير موزون، والموزون ينقسم إلى المفهوم كالأشعار، وغير المفهوم كأصوات الجمادات وسائر الحيوانات.
وهو يربط بين حواس الإنسان ومظاهر الطّبيعة، حيث يجد علاقة كبيرة بينهما، ممّا يحدث لذة في حواس الإنسان، فالبصر لذته النّظر إلى المبصرات الجميلة كالخضرة، والشّم لذته الرّوائح الطّيبة، واللّمس لذته مسّ النّاعم، والعقل لذته العلم والمعرفة، وهكذا السّمع لذته الصّوت الحسن من جماد وإنسان.
وعليه ما من شيء صنعه الإنسان إلا وله أصل في الخلْقة، وأصل المعازف حناجر الحيوانات، فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرّم لكونها طيبة أو موزونة، فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب والطّيور، لهذا ينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الإنسان كالقضيب والطّبل والدّف وغيرها من الآلات.
ومع هذه القاعدة الفلسفيّة العميقة، إلا أنّ الغزاليّ كفقيه وقع أمام نصوص روائيّة[5] محرّمة لبعض الآلات كالأوتار والمعازف، لهذا قام باستقراء هذه الرّوايات حسب المنطلق العقليّ الفلسفيّ، وخلص أنّها ليست محرّمة لذاتها؛ بل لما اقترنت به من أمور ثلاثة:
- أنّها تدعو إلى شرب الخمر.
- تذكر مجالس الأنس بالشّرب.
- الاجتماع عليها غالبا من عادة أهل الفسق.
ولهذا يرى أنّه لو استخدمت هذه الآلات في مجتمع، وكانت صفاته معاكسة؛ لكان الحكم آخر، لأنّها لم تحرّم من حيث كونها كأصوات؛ وإنّما لعوارض أخرى.
وهذا يذكرنا بما قاله السّالميّ[6] [ت 1332هـ] عن القهوة، فهي لما دخلت عمان حرّمت لأسباب قريبة من تحريم المعازف، ولو كانت القهوة موجودة في القرون الأولى لوضعت روايات في التّحذير منها، يقول في الجوهر:
وَقهوةُ البنِّ الّتي تُستعملُ | فيها خلافُ العلماءُ يُنقَلُ | |
قدْ وردَ التّحريمُ في الآثارِ | في ذاكَ عنْ ساداتِنا الأخيارِ | |
وَلهمْ في ذاكَ اعتبارُ | تلوحُ في غرّتِهِ الأنوارُ | |
وَذاكَ أنّ السّفهاءَ جعلوا | ذلكَ عادةً عليها عوّلوا | |
فَاستعملوها في مقامِ اللّهوِ | مكانَ خمرِهمْ بِهذا النّحوِ | |
يُدارُ كأسُها كَكأسِ الخمرِ | وسميّت باسمِها في الذّكرِ | |
كَقهوةٍ وَخمرةٍ وَكأسِ | في هيئةٍ سائغةٍ لِلحاسي | |
تشبهاً منهمْ بِشربِ المسكرِ | وَهيَ أمورٌ منعُها لمْ يُنكِرِ | |
نفسُ التّشبهِ الحرامِ لا سِوى | فَذا هوَ المانعُ لا نفسُ الهوى | |
فللهِ ما أطولَ ذاكَ النّظرا | في قطعِ مادّةِ الفسادِ إنْ طرا | |
وبعدَ أن طالَ الزّمانُ واختفى | مرادُ ما عناه من قدْ سلفا | |
قامَ أناسٌ ما دروا بالأصلِ | يستبعدونَ قولَ غيرِ الحلِّ | |
وذاكَ حيث اندرسَ التّشبهُ | وصارَ وجهُ الحلِّ فيها أوجهُ[7] |
وبعد ما تحدّث الغزاليّ عن الآلات تابع الحديث عن الغناء بعيدا عن الآلات، فيرى أنّ الغناء الخارج من حنجرة الإنسان ما هو إلا ترتيل الأشعار، فهو بين الحلال والحرام، فإن كان فيه محظور نثرا ونظما حرّم النّطق به، سواء كان النّطق بلحن أو بغير لحن، فكما إن إنشاده حلال؛ فتلحينه حلال، حيث أنّ حلاله حلال، وحرامه حرام.
ثمّ بين أنّ النّغمات الموزونة لها تأثير في الأرواح، فمن الأصوات ما يفرح، ومنها ما يحزن، وهذا لا يقتصر على الشّعر؛ بل يعمّ الأوتار وغيرها، فإذا كان الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء، فما بالك بالإنسان العاقل الحي؟!!
وبعد هذا استشهد الغزاليّ بالأغراض الّتي يكثر فيها التّرنم، ولها تأثير في القلب، وهي سبعة مواضع:
- غناء الحجيج، وهم يدورون في البلاد بالطّبل والشّاهين والغناء، وهذا مباح؛ لأنّها نظمت في وصف الكعبة والمقام والحطيم وسائر المشاهد، فإذا كان الحج قربة، والشّوق إليه محمودا؛ كان التّشويق إليه بكلّ ما يشوق محمودا، وإذا أضيف إليه الطّبل والشّاهين زاد التّأثير، وكلّ ذلك جائز ما لم يدخل فيه المزامير والأوتار الّتي هي من شعار الأشرار.
- ما يعتاده الغزاة لتحريض النّاس على الغزو، وهذا مباح أيضا.
- الرّجزيات الّتي يستعملها الشّجعان وقت اللّقاء، والغرض منها التّشجيع للنّفس والأنصار، وتحريك النّشاط فيهم للقتال، وهذا أيضا مباح.
- أصوات النّياحة ونغماتها، وتأثيرها في تهييج الأحزان والبكاء، وهذا منه ومحمود ومذموم، أمّا الحزن المذموم فكالحزن على ما فات، أو الحزن على الأموات، وأمّا المحمود فكحزن الإنسان على تقصيره في أمر دينه، وبكائه على خطاياه.
- السّماع في أوقات السّرور تأكيدا للسّرور، وتهييجا له، كالغناء في يوم عرس، أو يوم عيد، وهذا مباح أيضا.
- سماع العشاق تحريكا للشّوق، وتهييجا للعشق، وتسلية للنّفس، وهذا مباح إذا كان المشتاق إليه ممّا يباح وصاله، كمن يعشق زوجته، أو سريته، فيصغي إلى غنائها، لتضاعف لذته في بقائها، وإمّا إن كان العشق يؤدي إلى الوقوع في المحظور؛ يصبح الغناء في هذه الحالة حراما.
- سماع من أحبّ الله وعشقه، واشتاق إلى لقائه، فهذا مباح أيضا.
ولمّا فرغ من بيان عوارض الإباحة انتقل إلى بيان عوارض التّحريم، وذكر خمسة منها:
- أن يكون المَسمع امرأة لا يحلّ النّظر إليها[8]؛ لأنّ الخلوة بالأجنبيّة حرام، والنّظر إليها حرام، ولأنّه طريق الفتنة، ويدخل في هذا الأمرد إذا خيفت الفتنة، وإلا الأصل في النّظر إليه الإباحة، لكنه منع خوف الفتنة.
- الآلة إن كانت من شعار أهل الشّرب أو الشّواذ[9]؛ يحرم أن تقترن مع الغناء، كالمزامير والأوتار وطبل الكوبة، وما عدا هذا يبقى على أصل الإباحة كالدّف والقضيب وسائر الآلات.
- نظم الصّوت[10] إن كان فيه شيء من الخنا والفحش وما شابهه؛ فسماع هذا حرام بلحن كان أم بغير لحن.
- المستمتع إذا كانت الشّهوة غالبة عليه، بحيث لا يسمع إلا ويتذكر الحرام؛ فهذا السّماع عليه حرام.
- إذا كان الشّخص من عوام النّاس؛ فالسّماع في حقه تعتريه الأحكام الخمسة، فإن كان يقرّبه إلى من الله كان محبوبا، وإن كان يقوده إلى الحرام كان محظورا.
نلحظ من خلال ما سبق أنّ الغزاليّ حاول الجمع بين الأصل الفلسفيّ للغناء والمعازف، والأثر الاجتماعيّ، وفي الوقت نفسه حاول الجمع بين هذا وبعض النّصوص، بيد أنّ ابن حزم الظّاهري [ت 456هـ] سنجده أكثر جرأة في هذه النّصوص الرّوائيّة في فترة مبكرة كما سنرى في الحلقة القادمة.
يتبع الحلقة الخامسة عشر ………………
الهامش:
[1] للمزيد حول هذا الموضوع ينظر: الغزاليّ: أبو حامد محمد؛ إحياء علوم الدّين، ط دار الفكر، بيروت لبنان، الطّبعة الثّالثة، 1418هـ/ 1997م، كتاب السّماع، ج: 5، ص: 103 وما بعدها؛ وينظر: الزّبيديّ: محمد بن محمد الحسينيّ؛ إتحاف السّادة المتقين بشرح إحياء علوم الدّين، ط دار الكتب العلميّة، بيروت/ لبنان، ج: 7، ص: 556 وما بعدها.
[2] الزّركليّ: خير الدّين؛ الأعلام، مصدر سابق، ج 7، ص: 22.
[3] قوام الدّين أبو علي الحسين بن علي الطّوسيّ الملقب بـخواجة بزك أي نظام الملك، من مواليد طوس في بلاد فارس، أو ما يسمى حاليا إيران، أحد أشهر وزراء السّلاجقة، كان وزيرا لألب أرسلان وابنه ملكشاه، لم يكن وزيرًا لامعًا وسياسيًّا ماهرًا فحسب؛ بل كان داعيًا للعلم والأدب محبًّا لهما؛ أنشأ المدارس المعروفة باسمه «المدارس النّظاميّة»، وأجرى لها الرّواتب، وجذب إليها كبار الفقهاء والمحدِّثين، وفي مقدِّمتهم أبو حامد الغزاليّ، اغتاله الإسماعيليون عام 1092م.
ينظر : الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: الخميس 9 نوفمبر 2017م، السّاعة التّاسعة والنّصف صباحا.
[4] سيأتي تفصيل هذه الأقوال ومناقشة أدلتها في مباحث مستقلّة.
[5] سيأتي مناقشة بعضها في بحث مستقل.
[6] تقدّم ترجمته.
[7] السّالمي: نور الدّين؛ جوهر النّظام في علمي الأديان والأحكام، مصدر سابق، ج: 2، ص: 238.
[8] سيأتي مناقشة هذا الرّأي في آخر البحث.
[9] استبدلت اللّفظة السّابقة المستخدمة بهذه اللّفظة المعاصرة.
[10] أي الشّعر وشبهه.