وفاء بنت سالم
أمي الحبيبة :
بقدر ما رأيت الغضب المنصب من وجهك حين قلتُ لك :يكفيني في هذه الحياة ولديّ، بالقدر نفسه إزداد إصراري على موقفي الذي أرى أنه من حقوقي الخاصة التي لا يحق لغيري اقرارها..
وحتى الآن لا أرى سببًا مقنعًا لإحاطتي بعددٍ كبير من الأطفال إن كنت على يقين بعدم قدرتي على تربية الكثير منهم..
لو كان معي إبنة لكان قلبها كقلبِ عصفور بلله المطر يا أماه، ولظلت متخوفة من العالم ولأصبحت هشة جداً ترى أن نجاتها تكمن في رجل واحد..
وهذا ليس من باب الفكر الضيق، لا والله ولكني أعلم جيداً بنوع المجتمع والبيئة التي ستعيش فيها، والذي تمكن من فرض قواعده على اسرتي دوني، وأقول دوني بعد عناء ورحلة بحث طويلة خضتُ فيها مخاضًا عسيرًا وتقلبت فيها بقسوة على أرضها المتشققة، و تدحرجت فيها من على جبالها الشاهقة، نفس الجبال التي عدتُ بعد عمر لتسلقها لأجدني الغريبة (من المغضوب عليهم) والنكرة في عالم يرفض ما أنا عليه..
كنت في الليلة الماضية أفكر واتساءل :ما الذي يسبب كل هذا الجفاء وهذه الغيرة المرضية بين الإخوة؟!
ما الذي يجعل البعض ينكر وجود الآخر، ويخشى تميزه ونجاحه، و يساهم بشكلٍ واضح ومقرف دور الآخر في وضع العراقيل والمعوقات في سبيل الآخر!
كنت وأنا طفلة بلا ظفائر أسألك :لما أنا مختلفة هكذا، سمراء، بشعة اشبه الصبية أكثر، قصيرة وبدينة؟.
وكنتِ تجيبنني:استغفري يا ابنتِ..
ولم تخبريني كيف لطفلة تحمل تشوهات الحياة والمجتمع على روحها بالاستغفار؟..
بعدها بأعوام سألت أبي :هل يجب علي أن أعيش بهذه اليد المشوهة؟
أجابني:كل شخص فينا يحمل تشوها
قلت له :لكنه ليس واضحًا مثلي..
قال بإستنكار:لا تسبقي سنواتك ومضى..
لم أستطع أن أقول له، ولكني اكبر مما أبدو وأصغر مما أرغب..
وبين صفوف الدراسة لم أحب اي فتاة ، أجل لقد كرهت كل النظرات المنصبة عليّ من الفتيات، غضبت من مديرة المدرسة التي ارغمتني بالجلوس في الفصل وعدم المشاركة في طابور الصباح أو الوقوف أمام كشك الجمعية، غضبت من المعلمة التي كانت تنظر الي نظرة مقارنة بيني وبين اختي التي تشاركني كل شيء عدا جسدي وغضبي..
أمي الحبيبة
لا أرغب بأن يكون لي بنت، فلا أدري كيف سأتحمل وجودها في حياتي، ولا اتخيل اني استطيع ان اعيش مع طفلة من صلبي، إن التفكير في الأمر يجعلني ارتبك، اتصبب ارقا، اُصاب بدوخة متعبة..
الجميع يقول لي :البنات ألطف الكائنات..
أعلم ذلك وربي، ولكني اخاف الأمر بشكل مأساوي أحياناً!
لكي أن تصدقي أو لا، فحين حبلت للمرة الثانية دعوت الله باكية ورجوته أن يكون الذي بين احشائي صبيا، قلت :يارب ارزقني صبيا فأنا اخشى أن أكون اماً لفتاة، ولأن الله يعلم ما بي ولا أعلم ما بي كان أن رزقني الذكور..
ما الذي يجعل الجميع يكرر نفس الاسطوانه المشروخة، و يتهمني بالكفر والجحود!
ما الذي يمنح هذا المجتمع محاسبتي ووضع الحدود والبنود عليّ..
ولا يجعل لكل مخاوفي ولا مطالبي باب أدخل منه؟!
ثلاثون عاماً عبرت القلب دون أن تخلع ملابسها القديمة، عشرون عاما لا زالت للآن تعلق قمصانها على حبل النسيان تنتظر الشمس أن تجففها..
ثلاثون عامًا منحت الأغلبية الحق في وضع إقتراح بأن أزور طبيب نفسي ليعرف أي علة تسكنني، ولأني قلت لهم :لا زالت الطفلة التي سقطت عليها نيازك الحياة وابتلعتها البراكين لحظة طويلة قاسية، لا زالت بداخلي تركض كما لم اركض حين كنت في سنها، تتقافز، تتسلق أعمدة الإنارة في الشارع المقابل لبيت والدي، وبشقاوة تسير على أطراف أصابعها على الجدار الطيني الفاصل بين بيتها وبيت الجيران..
الطفلة التي علقت أصابع يدها اليمنى بين مشبك باب حافلة المدرسة وظلت صامتة حتى أوصلها لبيتِ والدها دون أن تخبر سائق الحافلة أن أصابع يدها عالقة وتكاد أن تنفصل مع كمية الدم المتدفق، الطفلة التي خبأت يدها العالقة بأن ألصقت وجهها وجسدها على باب الحافلة كي لا نسقط عليها نظرات الشفقة أو الاستهجان..
لا زالت تسكنني للآن، الطفلة التي ما ان رآها سائق الحافلة بعد أن فتح لها باب الحافلة غارقة في حمرة الدم حتى أخذ يصرخ ويولول كأنثى أضاعت صغيرها لتخرج أمها من المنزل على صوت صراخه وأمام صدمتها أمسكت بيدي بقوة ووضعتها تحت الماء ثم فجأة انهالت عليها ضربا وهي توبخها قائلة :أي شقاء تمنحينني إياه منذ انجبتك!
للآن لم أتخلص منها ،لم تجف قمصانها على حبل سنواتِ المتعبة، للآن لا زالت بين سنة وأخرى تقف أمام المرآة قائلة :هيا امسكي المقص، تخلصي من هذه الخصل والجدائل فأنتِ من دونها أفضل..
فلا ترهقيني بالأسئلة يا أمي، ولا تتفقي عليّ برفقة إخوتي، ولا تكرهي خوفي وإصراري..
لقد منحتني الحياة هذه المرة فرصة أخرى كي أنشغل فيها عن كل مخاوفي، وأغوص في بحر من التحديات والمغامرات..
وإني والله قد تمسكت بهذه الفرصة، وجعلت منها اسورة في جيد يدِ اليمنى، نفس اليد التي كانت السبب في بعض المطبات والعراقيل التي مررت بها..
أجل يا أمي، لو أنجبت طفلة لأصبحت ضعيفة كعصفورٍ بلله المطر..