منى بنت سالم المعولية
محاطة بكبار السن المتوجعين، بين شبه موت ونصف حياة، لكأنك تريد أن تكتب حبكة روائية فلابد أن تعيش الموقف صوت الأجهزة، دبيب الممرضات يحول الليل إلى نهار،عيناك على القراءات، تحاول أن تفسر تفاصيل وجه الممرضة، هل كل شيء على مايرام؟ ترد عليك بلغة مكسورة لتبين لك أنها تتحدث لغتك ” زين هبيبتي زين” لكن الواقع لايشي بذلك، يعاد التخطيط كل نصف ساعة، تشعر من فرط الكدر أنك مقعد، استذكر كيف بدأ اليوم، كان كل شيء لايشي بشيء، يطيب للمقربين مني تسميتي بـ “المتعنترة”، والمستقوية، أو من تظهر بمظهر المواضبة على العمل، لكن الحقيقة كلها إني أرفض أن أسدل ستار عطائي باكراً، للتو بدأت الخطوات الحقيقية نحو تحقيق الحلم، ولم تزل في أجندات العمر أموراً كثيرة لم تنجز، كل الأحداث متشابكة متشربكة، أنا من فرط الألم أشتعل من اللاشيء ومن ابتسامة عابرة من وجه متسامح أعود لأهدأ، في ذاك الصباح لاقلق غير المعتاد، كل الأوضاع مدهونة بالإختباء وأنا كعادتي أفرد أجنحتي بين مكتبين، نادرا ما أكون متئدة في خطواتي نهضت من مكاني وكأني أختبر اتزان رأسي، فجأة تلبدت عينيّ بالضباب وشعرت أن السماء انحجبت بالغيوم، في الحقيقة أن الدنيا وقتها فقط اسودت في عين استفاقتي، غبت عن الوعي ولم أشعر بوجع الارتطام إلا بعد أن شاهدت غرباء وأعرفهم فوق رأسي، كان الماء يتقاطر من شعري كالمطر ويسيل على وجنتي ويبلل صدر ملابسي، أسمع فيما يشبه الحلم وأنا مستيقظة صوت يقول الاسعاف قد وصلت، أنا أقدم اعتراضي، لاضرورة للأمور الصغيرات أن تكبر، “لاتقلقوا احدا أنا بخير” لكن طاقم الاسعاف كان له راي اخر كانت القياسات الحيوية ترعبهم، تحتاجين لنقل عاجل للمستشفى، قمت بمكابرة مرتجفة أقف وأسقط، اردد “أستطيع المشي استطيع الوقوف لاداعي لحملي” كل ماهنالك أن الذات تكره أن ينطبع في وجه الأخرين عنها لحظة ضعف، الحقيقة أن قواي قد خارت واستسلمت للاجراءات دون عناء، التنفس يتناقص والقلب يقيم حفلته المجنونة كانت طبول الموت تُقرع، صوت استنفار الإسعاف يجعلك تغيب في غياهب الخوف، حقن وأدوية وأيدٍ تطمئنك لتهدأ، تصل إلى بوابة الطوارئ كل شيء معد لاستقبالك، ترمق بعينيك شفقة العابرين، تُنقل بعد استضافة قصيرة من الطوارئ إلى غرفة العناية، يهدأ خوفك فأنت بخير، قلق الأطباء وسواس حميد كل همه أن ينقذك، تتظر حولك تقارن بينك وبين سكان المكان تشعر بنعمة كل شيء تشعر وأنت الشخص المعافى تماما وفي قمة شبابك أنك لاتريد لرزونامة التاريخ أن تتغيير، ليتها تتجمد وتبقى حيث أنت، أنا لا أريد للعمر أن يترذل ولا أريد أن تأتِ لحظة تقلبني فيها أيادي الشفقة، تلك التي قد تعتني بي من باب الواجب أو حتى من باب الحب، إن دورة الحياة الطبيعية ابتدأناها ونحن قطرة ماء في ظهور أبائنا ونطف وأجنة في أرحام الأمهات ثم طفولة بها ما لها من استيفاء ومراهقة عنيدة تضمخت بالشباب، إذن لتتوقف الدورة هنا لنتحول إلى طائر، فراشة، شجرة، زهرة ونحن في قمة العنفوان، رحل لوتريامون صغيرا ولم يؤلف إلا أناشيد مالدرور ومع ذلك روحه بقت خالدة، وكذلك أبا القاسم الشابي ذهب في أوج العطاء، كافكا هو الأخر كانت حياته قصيرة ووصل إلينا ميتا بإرث كبير، لوركا الذي اعدم واختفت جثته ولم يكن له حتى حق التشييع ذاب جسده الشاب وتمجدت سيرته، آرثر رامبو غيبه الموت في قمة الشباب، سيلفيا بلاث التي أثقلت أنفاسها بالموت، ماتت لتلتحق بالأحياء، لا ليس اليأس من يحكمني فأنا متصالحة مع كل شيء ولست ضد بقائي فالحياة جميلة ونحن محكومين بالعيش وكما قال سارتر محكومين بالحرية، ولكن مهما بلغ تشبثك بالبقاء فلا ضير من التمني ان نموت بعنفوان قبل أن يلتهم ظهورنا نقرس السرير أو تخوننا ذاكرتنا عن الاستيعاب أو ترمقنا أنوف تمسح أيديها المتقززة أعضاء العجز المتغوطة بفضلات الحياة..
تستيقظ من سكرة التفكير وكل ذلك التخبط في الأفكار، تستدعي الممرضة كهربائي القلب، توقيع صغير وموافقة عابرة لأدخل غرفة العمليات، لابد من حفر وجراحة، تحت سماكة الجلد مضخة صغيرة مثقوبة بالندبات، فكيف يا دكتور (ن) ستعيد جرح الجرح!
هناك داعم صغير سيغرس ليعيد ترتيب المهام ويعالج أوجاع السنين، شيء يساعد على تنظيم الأداء، ينظم ضخ الدماء، يعيد للرأس أكسدته لعلها تُشفى الحياة وتكف عن هذا الجسد المسكين بلبلته ومضايقته…