محمد المبارك خالد التيرابي
الوقوف على تجارب بعض الشعوب الأخرى من خلال السفر والتطواف عليها أمر بالغ الأهمية وبخاصة بحكم المتابعة الطويلة والدراسة المتأنية للإنجازات والإبداعات التي لا تخفى على ذي بال.
فالسفر المخطط له في سبيل تحقيق غايات منشودة يعود بلا أدنى شك بمغانم كثيرة على صاحبه، أهمها الاستزادة من صنوف المعرفة بالمقارنة والموازنة، والإطلاع على الأساليب والرؤى والتجارب الأخرى، وغير ذلك حتى قال الشاعر في هذا المعنى :
إني رأيت وقوف الماء يُفسدهُ
إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يَطِبِ
ولعل للتجارب التنموية الرائدة لبعض دول شرق آسيا اهتماماً كبيراً عند الكثير من الدارسين والباحثين في ظل نجاحاتها الباهرة في العقود الأخيرة، بعدما تلاقت وتلاحقت عدة عوامل أهمها استعداد الناس المفطور إلى التغيير والتطوير الذاتي والمؤسسي، وبعدما تهيأت ظروف أخرى لذلك .
وبحكم وجودي في منطقة جنوب شرق آسيا زهاء عشرين عاما، ومن خلال عملي الإعلامي كأول مراسل لقناة الجزيرة في شرق آسيا انطلاقاً من العاصمة الماليزية كوالالمبور… تسنت لي متابعة كثير من أوجه تلك الطفرات الاقتصادية والتنموية والإدارية عن كثب لا عن كتب!!! فليس من رأى كمن سمع، وليس الخبر كالعِيان. وأهم تلك العوامل التي دفعت بتلك الشعوب إلى الأمام طبيعة تركيبتها المزجية والنفسية من خلال تنافس الأعراق الهادئ المثمر كما هي الحال عليه في ماليزيا التي تجمع بين الملايو سكان البلاد الأصليين، والصينيين والهنود الذين جاء بهم المستعمرون للعمل في مجالي المناجم والبناء في الماضي.
وتجربة ماليزيا الثرة والرائدة لا يسع المجال إلى تتبع مقوماتها كلها في هذه العجالة ولكن لا بأس من الوقوف على بعضها، فمن تلك المقومات:
– العمل ما أمكن على تطبيق العلوم والمعارف عمليًّا حتى في الحياة اليومية سعياً الى تحقيق الأهداف المرجوة، وتنشئة الأبناء من خلال مخاطبتهم -مثلاً- مخاطبة راشدة منذ نعومة أظافرهم حتى يشبوا على التعلق بالمسئولية ومحاسبة النفس والعمل المنجز .
– التنبه إلى أخذ محاسن الآخرين والاستفادة من منجزاتهم وابتكاراتهم العلمية، والإضافة عليها ما أمكن وإخراجها بطريقتهم الخاصة بهم .
– الانتاج لا الاستهلاك فقط… العمل على تنمية روح الإبداع بالجديد المفيد والسديد من خلال التعاون المثمر من غير تحاسد أو تباغض مادام هنالك مصلحة تنتظر الجميع.
– الصبر والتجارب والمحاولة إثر المحاولة حتى استطاعوا -مثلا- أن يروِّضوا الحيوانات والطيور لينتزعوا منها القيام بحركات وألاعيب تدعو الى الدهشة والإعجاب لاستثمارها في اجتذاب المشاهدين وبخاصة السياح من خلال الصبر على تدريبها سنين عدداً!!!
– الاستقرار السياسي وقلة “الأمراض” والمشاحنات السياسية، وقلةإعجاب كل ذي رأي برأيه، وكل ذي مذهب بمذهبه، في تشتتٍ وتحزب وانزواء وكبرياء فارغة عند البعض!!!
– أخلاق وعادات تلك الشعوب من لين ورفق وتنازل، ولباقة الاعتذار، وحسن الاستماع، والعمل على الاستفادة القصوى من الزمن، وحب النظام والبرمجة، ومعالجة العثرات والهفوات، وخفض الصوت مثلا، والمدخل الهادئ في التحدث والذي يعرف علميًّا وإعلاميًّا ببراعة الاستهلال والتقديم الأمثل، بالإضافة الى الاهتمام بالدراسات الاستراتيجية والبحوث وفقاً للاستعداد المسبق المُعَد له بعناية تامة.
– احترام العلم وتشجيع العلماء المتميزين وبخاصة ما يعرف بالأدمغة المهاجرة أو العقول المهاجرة التي تجد عندهم اهتماماً وتكريماً باختلاف ألوانها وألسنتها مادام عطاؤها مرغوباً في ظل الحاجة إلى مواكبة التسارع والتواثب العلمي والعملي بين ظهرانينا.
هذه بعض اللمحات العابرة عن مقومات الإبداع عند بعض شعوب شرق آسيا بوجه عام وسنعاود التطرق لذلك بشيء من التفصيل فيما يأتي من حديث بحول الله.
*خبير استشاري في الإعلام التطبيقي، والتطوير الذاتي والمؤسسي بخبرات دولية
taheel22@gmail.com