الكاتب: حسن بن عبد الله العجمي
يعد أسلوب الموعظة والنّصح أحد الأساليب والطرق التربوية، فالله سبحانه وتعالى في العديد من آيات كتابه المجيد وهو بصدد دعوة عباده إلى ملازمة طريق الحق والنأي بـأنفسهم عن طريق الضلال وجه لهم هذه الدعوة بأسلوب الموعظة، كما وأرشد نبيّه الأكرم “صلى الله عليه وآله” إلى تبني هذا الأسلوب في دعوة النّاس إليه سبحانه، فقال تعالى: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (1).
وسير الأنبياء والصالحين حافلة بكلمات الموعظة وعبارات النصح التي وعظ بها هؤلاء غيرهم، ومنها ما ذكره الله سبحانه عن العبد الصالح لقمان، تلك الموعظة التي وجهها لابنه، والتي تعد منهجًا في التربية ينبغي لكل الآباء والأمّهات أنْ يقتدوا به فيها، ويتّخذونها أساسًا ومنطلقًا في مورد تربيتهم لأبنائهم.
فلقد ركزّ لقمان فيها قبل كل شيء على مسألة أنْ يكون ابنه موحدًّا لله جلّ شأنه في جميع مقامات التوحيد، في ذاته سبحانه، وطاعته، وعبادته، فلا يشرك به في أيِّ مقام من هذه المقامات أحدًا، وأوضح له أنّ الشرك بالله يعد من أعظم صور الظلم وأفظع أنواعه (2)، كما ولفت نظره إلى عظمة الله وسعة قدرته وعلمه، وأنّه لا تخفى عليه خافية، وعالم بكل شيء، عالم بكل ما يمكن أنْ يكون معلومًا، وعارف بمكان وجوده مهما كان ذلك الشيء دقيقًا وصغيرًا (3)، فهو كأنّه يعلمه بأنّ أيَّ تصرّف يصدر من الإنسان وإنْ كان بالمقدار المتناهي في الصغر، ومارسه في أشد الأماكن خفية وتحصّنًا، فإنّه بمرأى ومنظر من الله، وسيأتي به سبحانه وتعالى يوم القيامة وسيحاسب عليه فاعله، إنْ كان خيرًا أثابه عليه، وإن سيّئًا وشرًا استحق العقاب والعذاب عليه. ثم انتقل بموعظته إلى أمره له بالاهتمام بفريضة الصلاة وأنْ يكون اهتمامه بها على نحو الإقامة، مراعيًا فيها جميع شرائط صحتها، وملتزمًا بكافة عناصر قبولها، لتكون مقبولة عند الله سبحانه وتعالى. وبفريضتي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، اللتين لهما الأثر الكبير في صلاح الناس على مستوى الأسرة والمجتمع والأمّة فيما لو الْتُزم بهما. ثم يأمره بالتحلي بعنصر الصبر في كل مورد يحتاجه المرء فيه (4)، ثم يوجه له النصيحة بعدم التعالي والترفع على الآخرين من خلال نهيه عن المشي بطريقة تنبئ عن التكبر والترفع؛ كالمشي مرحًا أو بدون قصد فيه، ويبيّن له أنّ ذلك من الصفات المبغوضة لله عزّ وجل، كما ويدلّه على الطريقة الصحيحة التي بها يتخاطب ويتحدث مع الغير، بأنْ لا يرفع صوته أثناء الكلام كثيرًا، وإنّما عليه أنْ يتكلم بالطريقة الوسط؛ بدون أنْ يكون صوته عاليًا كصوت الحمير الذي يحدث اشمئزازًا للنفس عند سماعه، ولا أنْ يكون ضعيفًا بحيث لا يسمعه المخاطب (5).
ولم يذكر الله سبحانه هذه الموعظة في كتابه المجيد لمجرد أنْ يُعلم المسلمين بأنّ هناك شخصًا اسمه لقمان قدّم لابنه موعظة بالمضمون الذي ذكره فحسب، بل ليعلمهم بأنّ الأب الصالح هو من يحرص على سعادة أبنائه، فلا يجعل شيئًا في دائرة اهتمامه أكثر من حرصه على أنْ يكون أبناؤه أفرادًا صالحين مستقيمين في حياتهم، متقيّدين بعقيدتهم وتعاليم دينهم، ملتزمين بما عليهم من واجبات وحقوق تجاه أنفسهم وتجاه غيرهم، ويعيشون حس الشعور بالمسؤولية في جميع جوانب حياتهم. ولتكون هذه الموعظة منهجًا للآباء ونموذجًا ينتهجونه ويأخذون به فيما عليهم الاهتمام به من أمور في مقام تربيتهم لأبنائهم. وليعطي الآباء أسلوبًا ذا أثر فعّال في التربية وهو أسلوب الموعظة والنصح والتلقين. ومنه يظهر لنا خطأ ما ذهب إليه البعض من قول بأن أسلوب النصح والموعظة والتلقين من أساليب التربية التي عفا عليها الزّمن، وأنّها أساليب عقيمة لا بدّ من استبدالها بالأساليب الحديثة للتربية، فلو أنّها كانت عقيمة غير ذات نفع أو جدوى البتة لما كان لها هذا الاهتمام في كتاب الله المجيد.
نعم قد لا يجدي أسلوب الموعظة في تعديل سلوك بعض الأبناء حتى مع تكراراها مرارًا، فتتكرر منه ممارسة السلوك السلبي ويصر عليه، وفي هذه الصورة لا بدَّ للوالدين من انتهاج أسلوب آخر من أساليب التربية، شريطة أنْ لا يكون أسلوبًا عقابيًّا، فالأسلوب العقابي إنّما يُلجأ إليه في الضرورة القصوى جدًّا (6) وبعد عدم نفع الأساليب الأخرى التي لا تتخذ طابع العقاب أصلًا.
ثم إنّ الحكيم لقمان عندما أراد لابنه أن يكون موحدّاً لله عزّ وجل نهاه عن الاتصاف بضدّ توحيد الله وهو الشرك بالله، وهو بذلك يُعطينا أسلوبًا تربويًّا، فعندما نريد أنْ نوجه أبنائنا للأخذ بأمر ما أو القيام به يمكننا أن نقوم بنهيهم عن ضدّه بدلًا من الأمر المباشر به، وهو أسلوب يقرّ بنفعه الجميع، فمثلًا لو أننا أردنا من أبنائنا أنْ يكونوا أشخاصًا متصفين بالعدل فيمكننا أنْ ندعوهم لذلك بنهيهم عن الظلم الذي هو ضد العدل، فعندما نقول لهم اجتنبوا الظلم، فهو شبيه بقولنا لهم عليكم بالعدل من حيث أنّ كلا القولين توجيه إلى الأخذ بمبدأ العدل واجتناب الظلم.
ولم يقتصر لقمان على نهي ابنه عن الشرك، بل نفّره منه أشدّ تنفير؛ وذلك ببيان ما للشرك بالله من أثر سيء، وأنّه ظلم ومن أبشع أنواع الظلم، وكذلك عندما نهاه عن التكبر والاختيال والتفاخر بيّن له أحد أهم آثار هذه الخصال السلبيّة وهو أنّها صفات غير محبوبة لله عزّ وجل، وهذه طريقة أخرى تستفاد من موعظة لقمان، فلكي تبعد ابنك أيّها الأب عن فعل معصية أو ممارسة أمر سيء فعليك أنْ توجد في نفسه نفورًا وتقزّزًا منه ببيان جميع آثاره السلبيّة أو بذكر أهمّها.
ومن نافلة القول أنْ نقول بأنّ الموعظة لكي تكون مؤثرة لا بدّ وأنْ تكون صادرة ممن هو متصف بالصّلاح، فموعظة من كان مشهورًا بالانحراف وعدم الاستقامة تكون في الغالب معدومة الأثر، ولذلك لا بدّ أنْ يكون الواعظ قدوة وأسوة لمن يعظه، سواء أكان هذا الواعظ أباً أو أمّاً أو معلماً أو عالماً أو غير ذلك، فحين توجد القدوة الصالحة فإنّ الموعظة الصادرة منها تكون ذات أثر بالغ في النّفس.
المصادر:
(1) النحل: 125.
(2) “وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ” (لقمان:13).
(3) “يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ” (لقمان: 16).
(4) “يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ” (لقمان: 17).
(5) “وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ” (لقمان: 18 – 19).
(6) ولا يعني هذا أنّه يجوز للوالدين في هذه الصورة استخدام أسلوب العنف غير الجائز شرعًا وقانونًا ضد أبنائهم، وإنّما المراد منه استخدام الأسلوب العقابي الذي يقرّه الشرع والقانون.