محمد المبارك خالد التيرابي *
مما لا ريب فيه أن وراء النجاحات التنموية الماليزية الباهرة في العقود الأخيرة رجالاً نابهين أوتوا من العلم النافع وبعد النظر الصائب نصيباً موفوراً -كما ذكرنا في وقت سابق- رجالاً صدقوا ما عاهدوا شعوبهم عليه، والذين بدورهم بادلوهم صدقاً بصدق وإقداماً بإقدام والتزاماً أخلاقيًّا بالتزام!
وهنالك عقبات تعترض بعض الدول فيما يتعلق بالاستفادة المرجوَّة من التجربة الماليزية منها: عدم وجود القابلية أو البيئة المناسبة أحياناً للتفاعل مع تلك التطلعات التنموية الراسخة من استعدادات وكفاءات يمكن لها أن تبرع في المساهمة بالجديد السديد الذي يتمشى مع آخر التطورات الجارية، فالمسألة تقتضي “هضماً” ووقتاً ومرحلية… تقتضي هضماً من خلال الوقوف التام على تلك التجربة والنهل منها بانتقائية… ووقتاً بحكم الانتظار والتريث ريثما يكتمل الاستيعاب التام لذلك… وتقتضي مرحليَّةً وفقاً لتقفي التجربة على فترات تبعاً لتبعاتها وإفرازاتها وما يمكن أن يتفق معها أو يتعارض بحكم مقدار الحاجة وتباين الظروف الخاصة بكل بلد على حِدة.
فمثلاً التجربة التعليمية التطبيقية الممنهجة من خلال الاهتمام بالتعليم بالتعلُّم وإيفاد الدارسين إلى خارج البلاد، والرؤية الدفاعية المتقشفة بحكم أن ماليزيا ليست في حالة عداء مع الدول المجاورة، والبعد التنموي المنظم ذو التخطيط الصائب -قريب وبعيد المدى- وفقا لرؤية العام ٢٠٢٠م -مثلاً- الاكتفائية الطموحة وقد تحققت إنجازاتها قبل ذلك التاريخ، بالإضافة إلى الاهتمام المبكر بقطاعات الزراعة والسياحة والاستثمار توسعة وتشجيعاً وتسهيلاً؛ تلك الأساسات وغيرها -التي فطن لها مهندس النهضة القيادي الهادئ والنافذ الطبيب الأسطورة الحاج مهاتير محمد- آتت أكلها رخاءً غير منقوص في وقت وجيز، وهذا أمر كان حريًّا أن يتطلع إليه قادة الدول الذين تقطعت بهم الأسباب وتعثرت خطاهم وجرُّوا معهم بذلك الويل والثبور لشعوبهم التي حارت فيهم وبهم سواءً بسواء! عندما أخفقوا في أن يُدركوا مقومات التقدم الملموس بالعمل المتقن والمرحلي الجاد والمحفِّز، واستلهام المواهب والأدمغة المقيمة والمهاجرة على حدٍّ سواء… بالتشجيع والتمكين مع ما تقتضيه الضرورة ترتيباً وعطاءً… بسعة الأفق استجلاباً لإمكانات الدول الطموحة الواصلة المنجزة والاستفادة منها أخذاً وردَّاً وفقاً للتبادل العلمي والخبراتي -كأمرٍ لا غنىً عنه- بتحفيز وإغناء البحوث والمجهودات الشخصية الكفائية الناجزة.
لقد انتفعت ماليزيا من استقلاليتها السياسية والاقتصادية وفقاً لتحررها -إلى حدٍّ ما- من الخضوع للضغوط والإملاءات الخارجية حيث تكتفي ذاتيًّا تقريباً بمواردها البشرية والزراعية والمعدنية وغير ذلك.
الغريب في الأمر أن قلة من الدول عكفت على دراسة ومتابعة تجربة النهضة الماليزية ردحاً طويلاً من الزمان وغاصت في أعماق أعماقها ولكنها لم تستطع تحقيق فائدة قصوى منها كما ينبغي بالرغم من الجهد الجبار الذي بُذل والأموال الكثيرة التي أُهدرت في ذلك السبيل!!!
هذا عدا أن محاولات تقديم التجربة الماليزية كإضافة ورؤية أخرى عبر الدورات التدريبية وورش العمل والمحاضرات لبعض الشعوب العربية لم تجد -بكل أسف- استحساناً ذا بال من معظم القيِّمين على الأمر -كما أشرنا فيما تقدم من مقالات- وذلك إما لعدم جاهزيتهم للإحاطة بما يجري أو لقلة صبرهم علي التمحيص والاستيعاب ثم التمثُّل… أو لخللٍ إداري فاضح في ظل البيروقراطية العقيمة ما خفي منها وما عُلم!!! ولا طائل عند أكثرهم من معالجة الخلل بعدما تراكمت وتراكبت عليه الأخطاء والآثام على مرِّ الأيام!!!
وبحكم وجودي في ماليزيا لأكثر من عقدين من الزمان وطبقاً لعملي السابق كإعلامي استطعت بحول الله وحمده أن أتابع عن كثب -تمحيصاً وتحقيقاً- جانباً بالغ الأهمية من تجربة ماليزيا التنموية الرائعة تلك التي يظل الغافلون والآفلون يحلمون في المنام فقط بإنجازاتها الماثلة للعِيان من غير أن يستبينوا كنهها تأسيساً وتقويماً، جهداً وإثماراً!!!
* خبير استشاري في الإعلام التطبيقي، والتطوير الذاتي والمؤسسي بخبرات دولية
taheel22@gmail.com