وفاء بنت سالم
عزيزي
لم يسقط ظلي من المرآة، ولم يتدحرج من درجات سلم بيتنا القديم؛ كان يختبئ تحت الدرجات الاسمنتية العريضة تلك المساحة التي اتخذتها منها في صغري مخبئ لي من صفعات اقراني وتوبيخ اخوتي لي..
لذلك ما أن فتحت باب الدروازة وعبرتها بخطواتي حتى إلتقاني ظلي في عناقٍ حميم، قال لي معاتبًا :مرت على باب صبيحتي جمعتين لم أسمع فيها خطواتك ولا تحياتك المشاغبة، قلت له وأنا أبادله العناق :تعلم ما بي جيدًا، وحدك من يختبئ مني تحت هذه الدرجات الاسمنتية كلما بلغت الضوضاء روحي واستنزفت صمتي..
وفي جولة بطيئة في حوية بيتنا القديم والسكة المؤدية إلى الدرس “الحظيرة” قال لي ظلي بعد أن لاحظ شرودي:ظننتك قوية، يؤسفني حالك.
أخذت نفساً عميقًا أخرجته من فمي وقلت :ما مقياس القوة لديك؟
وابتعدت عنه لأخرج جسدي بخطواته المسرعة نحو تعريشة السيارة التي تحولت بباها النحاسي الطويل إلى مخزن لإطارات سيارات إخوتي، ثم عدت بأدراجي نحو الحوية لأقف في منتصفها تمامًا ونظري معلق على نخلة الخنيزي التي تستند برشاقة على رفيقتها نخلة النغال، بدت لي أنها محظوظة بهذا الطول الذي يظهرها معانقة للسماء الزرقاء والعصافير تترنح على خوصها بخفة وتتمايل سعفاتها يمنة ويسرة مع هبات الريح الباردة..
كان العصر باردًا هذه المرة ولكنه يحمل رائحة قهوة منسية ،رائحة قهوة تخرج من فم مطبخ خالٍ من كل شيء عدا أدراج نحاسية تخبئ في جوفها فناجين قهوة نحاسية قديمة وابريق شاي معدني مجعد الجبين..
كنت أتجاهل ظلي وكان هو يحاول أن يعتذر لي بعدة طرق تجاهلتها دون عطف.
ثم وأنا اُغلق باب المطبخ القديم خلفي قلت له : حقًا أنا أشعر بالشفقة عليك، وحدك من ظل مختبئ مع هذه الأطلال، قاطعني قائلا :ليست اطلال، ولستُ اختبئ، أنا أكثر وفاءًا منك..
قاطعته سائلة :ما الوفاء يا ظلي؟
إلتزم الصمت وعبرته نحو المزرعة..
كانت المزرعة لا تزال خضراء، بل هي أخضر مما كانت، أُحبُ هذا الإخضرار وصوت الماء المتدفق من الدينمو المتشبث بفمه على طوي البيت، الفاتح بطنه على الحوض الأسمنتي المستطيل الذي بدوره يفتح أصابع كفه الطويلة نحو الييل “الساقية” ليعبرها الماء بخطٍ مستقيم نحو التربة المسمدة بفضلات الحيوانات..
ثم فجأة وأنا أتجاهل ظلي رأيتني طفلة تركض صوب التركبة وفي يدها بلول الماء “كأس”، ناديت عليها أن خففي من ركضك لكنها تجاهلتني ودخلت التركبة مسرعة، مشيت بخطوات سريعة نحو التركبة خوفًا عليها لأجدها برفقة رجل أربعيني وشاب تتقافز بين ركن وآخر ،والرجل يحاول جاهداً جعلها تخرج من المكان وهو يحرك بيده خليط الحلوى بالملاس الحديدي الطويل “المغرفة” ،لكنها كانت أكثر فوضى من أن ينتزعها صوت الرجل المرتبك من المكان، فما كان منها إلا أن استغفلته في ثوان سريعة لتسقط في المرجل الدائري..
شهقت وأنا أنظر إليها، لم أستطع أن اُحرك ساكنًا، حاصرني الدخان الساخن، شعرت بالإختناق فسقطت بعد ثوان على الأرض الاسمنتية لأستيقظ بعدها على صوت انثوي يسألني وهو يشد على ذراعي اليسرى بجهاز الضغط :هل أنتِ مصابة بالربو ؟
نظرت حولي بحثًا عن ظلي ،و الطفلة، لا أحد
وحدي مسجاه كخرقة وحيدة على سرير مستطيل اشبه بتابوت في ضيقه وسائل أبيض ينتقل إلى وريدي في يدي اليمنى ببطء، أعادني السؤال المكرر للنظر إلى وجه الممرضة التي تسألني :هل أنت مصابة بالربو؟
هززت رأسي بنعم، ثم سألتها :ماذا حدث للطفلة؟
اتسعت عيناها في خوف وهي تسأل مرة أخرى :حامل؟!
اغمضتُ عيني بتعب قائلة :أشعر بالتعب أُريد أن أنام..