الكاتب: بدر بن سالم العبري
ينظر بعضهم إلى فلسفة الجمال في المنظور الفقهيّ الإسلاميّ بحساسيّة مبالغ فيها؛ لأنّه يتصور الجمال عريا وسفورا وبعدا عن تعاليم السّماء، لذلك كانت النّظرة الفقهيّة خصوصا وما ينتج عنها من أبعاد اجتماعيّة أقرب إلى السّلبيّة في الكثير من الوسائل الجماليّة، بجانب قلّة الأبحاث الفقهيّة في الجمال كنظرة فلسفيّة، فمع تطور الفنّ فيما يخص الغناء والموسيقى في المجتمع العباسيّ إلا أنّه في المقابل اشتهر القول بالتّحريم بدافع الزّهد والورع، ولأنّ الغناء والمعازف كانا مصاحبين غالبا لمجالس الأنس وشرب الخمر، وشاعت الحرمة بين النّاس وتناقلوها[1].
لهذا حاول العديد من المعاصرين تغيير الصّورة النّمطيّة في النّظرة الفقهيّة للجمال في الإسلام، ومن هؤلاء محمد عمارة [معاصر] في كتابه الإسلام والفنون الجميلة وبين فيه أنّ الإسلام في أصله دين جمال، وجاء لتمكين هذا الجمال والحفاظ عليه وضبطه بما يتوافق وفطرة الإنسان.
فهو يذكر في الفصل الأول من كتابه أنّ هناك ممّن يجعل خصومة بين الإسلام والجمال، ويظهر ذلك من خلال السّلوك المتجهم إزاء آيات الجمال والفنون والإبداعات الجماليّة في هذه الحياة[2].
وعليه حاول نقض الصّورة السّلبيّة من داخل النّص الدّينيّ الإسلاميّ ذاته، فالآيات القرآنيّة تنطلق بالإنسان بداية إلى جمال الكون، مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[3]، والإنسان أمر بالنّظر في هذه الآيات الكونيّة والتّمتع جماليّا بها[4].
وبين عمارة أنّ الله تعالى استخدم في بعض الآيات حتى عبارات الجمال نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}[5]، فلفظة الزّينة هي لفظة جمال[6].
والقرآن الكريم أمر المسلم بالتّزين والجمال، وفي الوقت نفسه أنكر فيمن شدد وحرّم ذلك على نفسه، أمّا الأول فيظهر من خلال قوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[7]، وأتبعها مباشرة بقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[8].
ثمّ عرّج عمارة إلى نماذج عملية للجمال النّبويّ كمثل تسريحه – صلّى الله عليه وسلّم – لشعره، وتزينه وتعطره، وظهوره الجماليّ في لباس وحسن هيئته، واختياره لأصحابه الاسم الحسن، وكان يحب الجميل من الطّعام، بلا تقتير ولا إسراف، وحبه للصّوت الحسن، وتحببه إلى خدمه وحسن معشره، وعدم إنكاره على النّاس في لهوهم في أعيادهم، أي ما يسمى اليوم بالفنون الشّعبيّة[9].
عموما يصعب في هذه العجالة ذكر العديد من الأمثلة إلا أنّه يمكن خلاصة ذلك أنّ فلسفة الجمال كامنة في القرآن حتى في نسقه الجماليّ، ومقاماته الموسيقيّة، وآياته الجماليّة في الرّوح وعلم الاجتماع والاقتصاد والقيم الكبرى الّتي تجلى بها.
وقد جمع القرآن بين الجمالين الماديّ والقلبيّ، فكما أنّ هناك جمال المادة المتمثلة في الصّورة الحسنة؛ هناك جمال الرّوح والقلب المتمثل في التّواضع والتّسامح والتّعارف والحب للإنسان وعدم الكبر والظّلم، مع العدل والقسط، حتى مع المخالف، يقول سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[10]، والبر والقسط أعلى درجات الجمال الاجتماعيّ.
والقرآن يؤكد على ذلك مع النّاس جميعا في صورة جماليّة لا تقتصر عند جماليّة حسن الاصطفاف في المسجد، وفنيّة النّقوش، وعمارة البيوت والصّوامع، بل ينطلق إلى جماليّة الفن الاجتماعيّ مع جميع شرائح المجتمع، كما يتجسد من قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[11].
ويرى عفيف البهنسيّ [معاصر] أن الجمال في المنظور الإسلاميّ ثلاثة: الحريّة والإبداع، والبحث عن المثل والقيم، والتّساميّ والإطلاق[12].
فالجمال صورة فلسفيّة ذات أبعاد تصوريّة ومجتمعيّة، إلا أنّه سيحدث تراجع لأسباب عديدة ستتضح أكثر في الحلقات المقبلة، ومنها عند دراسة الجانب الفقهيّ والرّوائيّ، ولهذا توّلدت بعض النّظريات الإسلاميّة المعاصرة والمتجددة في النّظرة إلى الغناء والمعازف.
يتبع الحلقة الرّابعة عشر ………………
ملحوظة: العديد ممّا جاء في هذا المقال نشر سابقا في مجلّة الثّقافيّة، عدد 25، 1ذو القعدة 1437هـ/ أغسطس 2016م.
الهامش:
[1] الصّفديّ: صلاح الدّين؛ رسالة في علم الموسيقى، تحقيق: عبد الملك دياب وغطاس عبد الملك خشبة، مصدر سابق، ص: 46، الاقتباس من مقدّمة المحقق بتصرف.
[2] عمارة: محمد؛ الإسلام والفنون الجميلة، الطّبعة الأولى 1411هـ/ 1991م، ط دار الشّروق، مصر/ القاهرة، ص 13.
[3] الأنعام/ 99.
[4] عمارة: محمد؛ الإسلام والفنون الجميلة، مصدر سابق، ص 18 بتصرف.
[5] الحجر/ 16.
[6] عمارة: محمد؛ الإسلام والفنون الجميلة، مصدر سابق، ص 18.
[7] الأعراف/ 31.
[8] الأعراف/ 32.
[9] للمزيد ينظر: عمارة: محمد؛ الإسلام والفنون الجميلة، مصدر سابق، ص 22 وما بعدها.
[10] الممتحنة/ 8.
[11] البقرة/ 177.
[12] البهنسيّ: عفيف؛ الجماليّة الإسلاميّة في الفنّ الحديث، ط دار الكتاب العربيّ، دمشق/ القاهرة، الطّبعة الأولى، 1418هـ/ 1998م، ص: 8.