محمد المبارك خالد التيرابي*
تباين العادات والتوجهات بين الشعوب أمر يغفله الكثير من الزائرين لدول جنوب شرقي آسيا، فالمدخل اللبق وبراعة الاستهلال وعدم الرد السريع في الحديث، والبرمجة المنظمة والترتيب السابق لكل شيء أمر ديدن القوم هنالك، والافتقار إلى ذلك أمر مرفوض بالطبع ويصنف صاحبه من الجهلاء “المتأخرين”، بل من المستهترين بالقيم والمثل العليا التي ارتضاها الناس كمنهج للحياة مقدس!!!
أذكر أن أحد الإخوة الزائرين اعتاد بعفوية أن يتحدث بصوت عالٍ فظن به البعض الظنونا وكانوا يسألوني في خلسة وهمس “هل بصاحبك جِنة”… هل هو في كامل قواه العقلية؟ ولماذا لا يتصنع الأدب واللطف على الأقل إن لم يكن مؤدباً ولطيفاً بطبعه!!!
ولطالما نبهته الى ضرورة الهدوء وخفض الصوت المنكر ولم أذكر له الآية القرآنية في هذا المعنى مباشرة إذ يقول الله تعالى: “وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ” صدق الله العظيم.
مع أنني أشرت إليها وحاولت أن أفهمه ذلك مراراً بعديد السبل حيث كنت أخشى أن يكون رد فعله رفعه لصوته أكثر وأكثر جراء ذلك في غضبٍ لا احتمله!!! ولكن يبدو أن “الطبع يغلب التطبع” فمن الصعب أن يستجيب المرء للتوجيه بعد تجاوزه عمراً معيناً، وقد اكتشفتُ بعد فوات الأوان أن مرافقته وصحبته “كارثة” تعاملية ينبغي تفاديها بالحكمة واللباقة، إذ عندما عجزت عن إقناعه بالعدول عن فعلته غير “المتحضرة” تلك اضطررت إلى تركه في آخر المطاف غير نادم على “عشرة الأيام” جراء حدته وشدته المعلنة والمكابرة وكأنه “عفريت بين الغزلان”!!! وهو يحسب بفعاله تلك أنه يُحسن صنعاً، وسط أناس كلامهم ضرب من الهمس والإشارة الهادئة!!!
وأذكر أن شاباً شرق أوسطياً متزوج من سنغافورية مسلمة جاء والده من أستراليا ليزوره، وكان الوالد يدخل الدار بالحذاء على غير عادة الناس في تلك البقاع النائية… يدخل الدار وهو “يمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحلُ”!!! وكان ابنه يستحي من مواجهته بخطأ ذلك فاستشاطت الزوجة ذات يوم غضباً بعدما طفح الكيل وبلغ السيل الزبى وطلبت إلى زوجها أن يراعي أبوه الشعور العام ويتقيد بالعادات السائدة، وفعلا تحدث الإبن مع أبيه في هذا السبيل، ولكنه اعتبر ذلك من قبيل التطاول و”قلة الحياء والأدب” من زوجة ابنه ليصل الأمر إلى المواجهة بينه وبينها!!! لتطلب بعدها الطلاق بكل أسف!!! ثم ما لبثت أن تركت البيت وهي لا تكاد تصدق هذا التصرف البغيض وغير المألوف!!!
ومما أذكره جيداً ولا أنساه أنني فوجئت بعد عدة أيام من وصولي إلى منطقة جنوب شرق آسيا بأنه يجب الاحتراس حتى في إطلاق النظرات وتعابير الوجه التي قد يفسرها البعض تفسيراً في غير موضعه، فالناس هنا لا يعرفون المواجهة المباشرة فإذا أخطأ المرء منهم فلا ينبغي أن تذكر له ذلك عِياناً بياناً وإنما تختار الوقت المناسب والكلمات المنتقاة بعناية وحذر وبعد “مقدمة” قد تطول أحيانا لضرورة التلطُّف وخشية الاستثارة وحتى لا ينقلب الأمر إلى عداء لا يجهر به أحد في الغالب وإنما يظل تُخفيه الصدور سنين عددا!!!
فالحاجة في البداية إلى دليل ورفيق درب خَبِر الناس هنا من خلال معايشةٍ طويلة لهم أمر لامندوحة عنه، وكثير ما يتهاون البعض ويصرون على التصرف الفردي الجريئ من غير أن يحسبوا حساباً للشعور والذوق العام… ما الذي يحبه الناس هنا وما الذي يبغضونه؟ حتى لا تنطبع صورة ذهنية (نمطية) خاطئة يُحاكم بمضمونها معظم الزائرين دونما دراية وتروٍّ وتثبتٍ!!!
*خبير استشاري في التدريب الإعلامي والتطويري الذاتي والمؤسسي بخبرات دولية
taheel22@gmail.com